كان ظهور المدنية الإسلامية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها في القرن الأول لهجرة محمد صلى الله عليه وسلم فصلاً جديداً في تاريخ الأديان والأخلاق، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والاجتماع، انقلب به تيار المدنية، واتجهت به الدنيا اتجاهاً جديداً، فكانت الدعوة الإسلامية لم يزل يأتي بها الأنبياء ويبشر بها المبشرون ويجاهد في سبيلها المخلصون، ولكن لم يكن يتمكن دعاتها من إقامة حكومة قائمة على أساسها ومناهجها متشبعة بمبادئها، ومن إقامة مدنية مطبوعة بطابعها مبنية على أحكامها مثل ما تمكنوا في هذه المرة، ولم تنل هذه الدعوة والجهود من النجاح في هذا السبيل مثل ما نالت أخيراً على يد محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فكان هذا الفتح المبين للإسلام محنة جديدة للجاهلية لم تعهدها من قبل، ولم تعرف كيف تخرج منها، عهدها بها دعوة دينية روحية فإذا هي تصبح نجاة وسعادة وروحاً ومادة وحياة وقوة ومدنية واجتماعاً وحكومة وسياسة. دين سائغ معقول كله حكمة وبداهة إزاء أوهام وخرافات وأساطير، وشرع إلهي ووحي سماوي إزاء أقيسة وتجارب إنسانية وتشريع بشري، ومدنية فاضلة قوية البنيان محكمة الأساس، يسود فيها روح التقوى والعفاف والأمانة، وتقدر فيها الأخلاق الفاضلة فوق المال والجاه، والروح فوق المظاهر الجوفاء، يتساوى الناس فلا يتفاضلون إلا بالتقوى، ويهتم الناس بالآخرة فتصبح النفوس مطمئنة والقلوب خاشعة، ويقل التنافس في أسباب هذه الحياة والتكالب على حطام الدنيا، ويقل التباغض والتشاحن، كل ذلك إزاء مدنية صاخبة مضطربة متناحرة متداعية البنيان متزلزلة الأركان، يظلم الكبير فيها الصغير، ويأكل القوي فيها الضعيف، ويتسابقون في اللهو والفجور، يتنافسون ف الجاه والأموال وأسباب الترف والنعيم، حتى تصبح الدنيا كلها حرباً في حرب وتصبح المدنية جحيماً على
أهلها، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} حكومة عادلة تساوي بين رعيتها وتأخذ للضعيف من القوي، وتحرس للناس أخلاقهم كما تحرس لهم بيوتهم وأموالهم، وتحفظ عليهم دماءهم وأعراضهم، خيارهم أمراؤهم، وأزهدهم في العيش أملكهم لأسبابه وأقدرهم عليه، إزاء حكومة عم فيها الجور والعسف، وتواضع رجالها على الخيانة والظلم، وتسابق أهلها في أكل أموال الناس وهتك أعراضهم وسفك دمائهم، وتفسد على الناس أخلاقهم بما تضرب لهم مثلاً بأخلاقها،