وفي كلام العرب ما يدل على أن الترك فعل فمن ذلك قول بعض الصحابة في وقت بنائه -عليه الصلاة والسلام- لمسجده بالمدينة:
لئن قعدنا والنبي يعملُ ... لذاك منا العمل المضللُ
فسمى قعودهم عن العمل وتركهم له عملاً مضللاً، ولذا فإن الكرماني لم يكن متجنياً على النووي عندما أورد كلامه في أن التروك لا تحتاج إلى نية، ثم عقب عليه بأن التروك تحتاج إلى نية؛ لأن الترك كف للنفس وهو عمل، ولأن التارك لا يحصل ثواب الآخرة بتركه إلا إذا قصد ذلك.
والذي يظهر لي أن الترك إن كان كفاً للنفس فهذا هو الذي يصير فعلاً، كما لو أمرته النفس الأمارة بالزنا أو بالسرقة فكفها فهذا يكون فعلاً، وعليه يحمل ما جاء في الآيات، فإن تركهم النهي عن المنكر كان بكف أنفسهم عن ذلك مع أنهم مأمورون به، وأما الترك الذي لا يخطر بالبال كترك الزنا وترك شرب الخمر والسرقة من شخص لا تخطر في باله هذه الأمور فهذا لا يعتبر فعلاً، وهذا الذي ذكرناه هنا قول المحققين من العلماء كابن حجر العسقلاني والكرماني وابن نجيم.
ويقول ابن نجيم في هذه المسألة: وحاصل كلامهم أن الترك المنهي عنه لا يحتاج إلى نية للخروج عن عهدة النهي، وأما لحصول الثواب فإن كان كفاً وهو أن تدعوه النفس إليه قادراً على فعله فيكف نفسه عنه خوفاً من ربه فهو مثاب، وإلا فلا ثواب له على تركه، فلا يثاب على ترك الزنا وهو يصلي، ولا يثاب العنين على ترك الزنا ولا الأعمى على ترك النظر المحرم.
"ولا يثاب العنين على ترك الزنا" لكن ماذا عنه إذا كان يتمنى أن لم يكن عنيناً فيزني؟ وماذا عن الأعمى الذي يفرح بالعمى أو الأعرج الذي يفرح بالعرج أو المريض الذي يفرح بالمرض ليعفى من الجهاد؟ يؤجر وإلا ما يؤجر؟ يأثم وإلا ما يأثم؟ هذه مسائل لا شك أنها متفاوتة، والناس فيها درجات على قدر ما وقر في قلوبهم، وهذه التفصيلات يحتاجها المقام، لكن تفصيلها لا يحتمله المقام، تفصيلها لو فصلنا في مثل هذه الأمور أظن ما تنتهي؛ لأن كل مسألة يدخلها تفصيلات.