٨٠٢- وفريق آخر يخفف من هذه القيمة التي أعطاها الفريق الأول لعمل أهل المدينة، فحقيقة كانت المدينة موطن السابقين من المهاجرين والأنصار، ولكنهم خرجوا للجهاد في سبيل الله، وتفرقوا في الأمصار المختلفة يعلمون الناس تعاليم الله، وأصبحت هذه الأمصار بفضل دعوتهم ونشر علمهم، وبفضل المتابعة العلمية من الخلفاء -تحمل علمًا كثيرًا ربما يضارع في القرن الثاني الهجري علم أهل المدينة ... بالإضافة إلى ذلك فقد اختلف التابعون فيما بينهم في المدينة، بل ربما اختلف الواحد منهم في فتواه، عندما يفتي في الموضوع الواحد أكثر من مرة الأمر الذي جعل علماء الأمصار الآخرين يلتمسون الفتوى الصحيحة فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غيرهم؛ لأنها عازبة عنهم ورواها الصحابة في الأمصار التي انتقلوا إليها.
٨٠٣- وقد بين ذلك الإمام الليث بن سعد في رسالته إلى الإمام مالك بن أنس، وكان قد أرسل إليه الأخير أنه يفتي بغير ما يفتي به أهل المدينة وقال له:"بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه"١.
ثم أفاض الإمام مالك في بيان فضل المدينة وما فيها من علم وعمل كما سبق أن ذكرنا.
٨٠٤- فرد عليه الإمام الليث برسالة: "وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ بفتياهم فيما اتفقوا عليه -مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له ... وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا
١ كتاب المعرفة والتاريخ لأبي يوسف يعقوب بن سفيان العيسوي "ت ٢٧٧" - تحقيق د. أكرم ضياء العمري - مطبعة الإرشاد بغداد - ١٣٩٤هـ - ١٩٧٤ م مج١ ص ٦٩٥ - ٦٩٧ "نص الرسالة كاملًا" - ترتيب المدارك حـ١ ص٦٤.