قُلْتُ: وَالشَّطْرُ الأَوَّلُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَةِ (١٥٤).(٢) وَتَأَمَّلْ سِيَاقَ الآيَةِ السَّابِقَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الكِتَابَةَ هِيَ كِتَابَةُ الأَجَلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرَّعْد: ٣٨].(٣) قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ: "وَالجَوَابُ المُحَقَّقُ: أَنَّ اللهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ؛ فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ المَكْتُوبِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ المَكْتُوبِ.وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيصٌ؛ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَقَالَ: ابْنُكَ دَاوُد. قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: فَقَدْ وَهَبْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً. فَكَتَبَ عَلَيهِ كِتَابًا وَشَهِدَتْ عَلَيهِ المَلَائِكَةُ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً! قَالُوا: وَهَبْتَهَا لِابْنِك دَاوُد. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَخْرَجُوا الكِتَابَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «فَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ». وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ وَلِدَاوُدَ عُمُرَهُ. فَهَذَا دَاوُدُ كَانَ عُمُرُهُ المَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّينَ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ"، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يَكُونُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَالمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللهُ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ قَبْلَ كَونِهَا وَبَعْدَ كَونِهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ العُلَمَاءُ: إنَّ المَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ، وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ، وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ! فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ، وَأَمَّا اللَّوحُ المَحْفُوظُ؛ فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ؟ عَلَى قَولَينِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ". مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (١٤/ ٤٩١).قُلْتُ: وَحَدِيثُ آدَمَ وَدَاوُدَ عَلَيهِمَا السَّلَامُ صَحِيحٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (٣٣٦٨) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (٥٢٠٨).وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا فِي عِلْمِ الحَفَظَةِ وَالمُوَكَّلِينَ بِالآدَمِيِّ؛ فَيَقَعُ فِيهِ المَحْو وَالإِثْبَاتُ كَالزِّيَادَةِ فِي العُمُرِ وَالنَّقْصِ، وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إِثْبَاتَ. وَالعِلْمُ عِنْدَ اللهِ". فَتْحُ البَارِي (١١/ ٤٨٨).وَقَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} مِنَ الأَقْدَارِ. {وَيُثْبِتُ} مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَهَذَا المَحْو وَالتَّغْيِيرُ فِي غَيرِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَكَتَبَهُ قَلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ تَبْدِيلٌ وَلَا تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ أَنْ يَقَعَ فِي عِلْمِهِ نَقْصٌ أَو خَلَلٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} أَي اللَّوحُ المَحْفُوظُ الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيهِ سَائِرُ الأَشْيَاءِ؛ فَهُوَ أَصْلُهَا، وَهِيَ فُرُوعٌ لَهُ وَشُعَبٌ. فَالتَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ يَقَعُ فِي الفُرُوعِ وَالشُّعَبِ كَأَعْمَالِ اليَومِ وَاللَّيلَةِ الَّتِي تَكتُبُهَا المَلَائِكَةُ، وَيَجْعَلُ اللهُ لِثُبُوتِهَا أَسْبَابًا، وَلِمَحْوِهَا أَسْبَابًا، لَا تَتَعَدَّى تِلْكَ الأَسْبَابُ مَا رُسِمَ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ، كَمَا جَعَلَ اللهُ البِرَّ وَالصِّلَةَ وَالإِحْسَانَ مِنْ أَسْبَابِ طُولِ العُمُرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَكَمَا جَعَلَ المَعَاصِي سَبَبًا لِمَحقِ بَرَكَةِ الرِّزْقِ وَالعُمُرِ، وَكَمَا جَعَلَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ مِنَ المَهَالِكِ وَالمَعَاطِبِ سَبَبًا لِلسَّلَامَةِ، وَجَعَلَ التَّعَرُّضَ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلعَطَبِ، فَهُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الأُمُورَ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَمَا يُدَبِّرُهُ مِنْهَا لَا يُخَالِفُ مَا قَدْ عَلِمَهُ وَكَتَبَهُ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ". تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: ٤١٩).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute