ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة، لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون.
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما هو لعن فاعله، لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبًا يوفض إليها المشركون كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها.
قال ابن القيم: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزمًا لا يحتمل النقيض، أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه: صيغة: (لا تفعلوا) وصيغة: (إني أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه، أو عدم من تحقيق لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابًا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيمًا، وأشد فيهم غلوًّا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية، وسلب خصائص الإلهية.