للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة، ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي لله ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسبابًا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: "فيكذبون معها مائة كذبة" ١. فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} ٢. وليس هذا من شأن الأولياء، بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم.

فكيف يأتون الناس يقولون: اعرفوا أنا أولياء، وأنا نعلم الغيب. وفي ضمن ذلك طلب المنْزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور؟! وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟! لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق. وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعوده الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفًا من النار، ثم يقوم إلى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد [٢٠، ٢٢، ٢٨] ، والمؤمنين [١، ٩، ٥٧، ٦١] ، والفرقان [٦٣، ٧٤] ، والذاريات [١٦، ١٩] ، والطور [٢٦، ٢٨] ، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء لا أهل الدعوى


١ البخاري: بدء الخلق (٣٢١٠) , ومسلم: السلام (٢٢٢٨) , وأحمد (٦/٨٧) .
٢ سورة النجم آية: ٣٢.

<<  <   >  >>