للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت: ولما كان الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء، كما في حديث سعد: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ١. رواه الدارمي، وابن ماجة، والترمذي وصححه. وقد يحتج بقوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". من يقول: إن المصائب والأسقام يثاب عليها غير تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا إن كانت سببًا لعمل صالح كالتوبة، والاستغفار والصبر والرضى، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها كما في حديث "إذا سبقت للعبد من الله منْزلة لم يبلغها، أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبره حتى يبلغه المنْزلة التي سبقت له من الله عزّ وجل" ٢. رواه أبو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم. وعلى هذا فيجاب عن الأول "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". أي: إذا صبر واحتسب.

قوله: "وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم". صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله، ولما كان الأنبياء عليهم السلام أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء، وأصابهم من البلاء في الله ما لم يصب أحدًا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسي بهم من بعدهم، ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم.

فإن قلت: كيف يبتلي الله أحبابه؟!

قيل: لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرًا لهم كما صحت بذلك الأحاديث. وفي أثر إلهي: "أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب" ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في


١ الترمذي: الزهد (٢٣٩٨) , وابن ماجه: الفتن (٤٠٢٣) , وأحمد (١/١٧٢ ,١/١٧٣ ,١/١٨٠ ,١/١٨٥) , والدارمي: الرقاق (٢٧٨٣) .
٢ أبو داود: الجنائز (٣٠٩٠) , وأحمد (٥/٢٧٢) .

<<  <   >  >>