قلت: هذا جواب فاسد، بل أحاديث النهي عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد، ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاصرضي الله عنه حلف مرة باللات والعزى، ويبعد أن يكون أراد حقيقة الحلف بهما، ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك، ومع هذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم. غاية ما يقال: أن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه، أما أن يكون ذلك أمرًا جائزًا للمسلم أن يعتاده فكلا. وأيضًا فهذا يحتاج إلى نقل أنّ ذلك كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم، وأن النهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك؟
الثالث: أن مثل ذلك يقصد به التأكيد لا التعظيم، وإنما وقع النهي عما يقصد به التعظيم.
قلت: وهذا أفسد من الذي قبله، وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال، فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له؟ فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه. وأيضًا فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق، وأيضًا فهذا يحتاج إلى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معدوم.
الرابع: أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله فهو قبل النسخ، ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله. وهذا الجواب ذكره الماوردي. قال السهيلي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك قال السهيلي: ولا يصح ذلك، وكذلك قال غيرهم. وهذا الجواب هو الحق، يؤيده أن ذلك كان مستعملاً شائعًا. حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه فقال:"ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" ١.