فإن قلت: كيف قال:"وتؤمن بالقدر خيره وشره"وقد قال في الحديث: "والشر ليس إليك" ١.
قيل: إثبات الشر في القضاء والقدر إنما هو بالإضافة إلى العبد، والمفعول إن كان مقدرًا عليه، فهو بسبب جهله وظلمه وذنوبه، لا إلى الخالق، فله في ذلك من الحكم ما تقصر عنه أفهام البشر، لأن الشر إنما هو بالذنوب وعقوباتها في الدنيا والآخرة، فهو شر بالإضافة إلى العبد، أما بالإضافة إلى الرب سبحانه وتعالى، فكله خير وحكمة، فإنه صادر عن حكمه وعلمه، وما كان كذلك فهو خير محض بالنسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، إذ هو موجب أسمائه وصفاته، ولهذا قال:"والشر ليس إليك"، أي: تمتنع إضافته إليك بوجه من الوجوه، فلا يضاف الشر إلى ذاته وصفاته، ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته منْزهة عن كل شر، وصفاته كذلك، إذ كلها صفات كمال، ونعوت جلال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل، لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله، فتستحيل إضافة الشر إليه، فإنه ليس شر في الوجود إلا الذنوب وعقوبتها، وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل، وهما في نفس العبد. فإنه ذات مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد الله به خيرًا أعطاه الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة، ومن أراد به شرًّا أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر عنه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه من ذلك شرًّا، ولله في ذلك الحكمة التامة، والحجة البالغة، فهذا عدله، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وهو العلي الحكيم. هذا معنى كلام ابن القيم، وهو الحق.
١ مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (٧٧١) , والترمذي: الدعوات (٣٤٢١ ,٣٤٢٢ ,٣٤٢٣) , والنسائي: الافتتاح (٨٩٧) , وأبو داود: الصلاة (٧٦٠) , وأحمد (١/١٠٢) .