للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ما فيه من التكلّف. وبالجملة المعتبر عندهم في الصريح والكناية الاستتار في نفس الأمر، ولا دخل لقصد المستعمل في جعل الواضع في اللغة مستترا أو لا في عكسه، قالوا كنايات الطلاق تطلق مجازا لأنّ معانيها غير مستترة لكن الإبهام فيما يتّصل بها كالبائن فإنّه مبهم في أنّها بائنة من أي شيء عن النكاح أو عن غيره، فإذا نوى نوعا منها تعيّن وتبيّن بموجب الكلام. وفيه بحث لأنّه إن أريد أنّ مفهوماتها اللغوية غير مستترة فهذا لا ينافي الكناية، واستتار مراد المتكلّم بها كما في جميع الكنايات، وإن أريد أن ما أراد المتكلّم بها ظاهر لا استتار فيه فممنوع. كيف ولا يمكن التوصّل إليه إلّا ببيان من جهة المتكلّم وهم مصرّحون بأنّها من جهة المحل مبهمة مستترة ولم يفسّروا الكناية إلّا بما استتر منه المراد، سواء كان باعتبار المحلّ أو غيره ولم يشترطوا إرادة اللازم ثم الانتقال منه إلى الملزوم كما اشترطه أهل البيان، بدليل أنّهم جعلوا الحقيقة المهجورة والمجاز الغير المتعارف كناية بمجرّد الاستتار كذا في التلويح وغيره. وعند علماء البيان لفظ قصد بمعناه معنى ثان ملزوم له أي لفظ استعمل في معناه الموضوع له لكن لا ليتعلّق به الإثبات والنفي ويرجع إليه الصدق والكذب، بل لينتقل منه إلى ملزومه فيكون هذا مناط الإثبات والنفي ومرجع الصدق والكذب، كما تقول فلان طويل النّجاد قصدا بطول النّجاد إلى طول القامة، فيصحّ الكلام وإن لم يكن له نجاد قط بل وإن استحال المعنى الحقيقي كما في قوله تعالى وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «١» وقوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «٢» وأمثال ذلك، فإنّ هذه كلها كنايات عند المحقّقين من غير لزوم كذب، لأنّ استعمال اللفظ في معناه الحقيقي وطلب دلالته إنّما هو لقصد الانتقال منه إلى ملزومه. فالمراد في الكناية اللازم بالعرض والملزوم بالذات وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل إنّ الكناية مستعملة في المعنى الثاني، لكن مع جوار إرادة المعنى الأوّل ولو في محلّ آخر، وباستعمال آخر، بخلاف المجاز فإنّه من حيث إنّه مجاز مشروط بقرينة مانعة عن إرادة الموضوع له. وميل صاحب الكشاف إلى أنّه يشترط في الكناية إمكان الحقيقي لأنّه ذكر في قوله تعالى وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «٣» أنّه مجاز عن الاستهانة والسّخط، وأنّ النظر إلى فلان بمعنى الاعتداد به والإحسان إليه كناية إن أسند إليه من يجوز عليه النّظر ومجاز إن أسند إلى من لا يجوز عليه النظر. وبالجملة كون الكناية من قبيل الحقيقة صريح في المفتاح وغيره. فإن قيل قد ذكر في المفتاح أنّ الكلمة المستعلمة إمّا أن يراد بها معناها وحده أو غير معناها وحده أو معناها وغير معناها معا، والأول الحقيقة في المفرد والثاني المجاز في المفرد والثالث الكناية، وهذا مشعر بكون الكناية قسما للحقيقة والمجاز مباينا لهما. قلنا أراد بالحقيقة هاهنا الصريح منها بقرينة جعلها في مقابلة الكناية، وتصريحه عقيب ذلك بأنّ الحقيقة والكناية تشتركان في كونهما حقيقتين وتفترقان بالتصريح وعدمه. لا يقال فإذا أريد بالكلمة معناها وغير معناها معا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ لا معنى له إلّا إرادة المعنى الحقيقي والمجازي معا لأنّا نقول الممتنع إنّما هو إرادتهما بالذات وفي الكناية إنّما أريد المعنى الحقيقي للانتقال منه إلى المعنى المجازي، وهذا بخلاف المجاز فإنه مستعمل في غير ما وضع له على أنّه مراد


(١) الزمر/ ٦٧
(٢) طه/ ٥
(٣) آل عمران/ ٧٧