للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بعيدا من الشارع الإتيان بذلك الحكم. مثال كون العين للتعليل ما قال الأعرابي هلكت وأهلكت فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم «ماذا صنعت؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان. فقال أعتق رقبة» «١» الحديث فإنه يدل على أنّ الوقاع علة للاعتاق، فإنّ غرض الأعرابي بيان حكم الوقاع، وذكر الحكم جواب له ليحصل غرضه لئلّا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون السؤال مقدرا في الجواب كأنه قال: واقعت فكفّر. ولا شك أن الفاء للتعليل، فيحمل عليه.

والاحتمال البعيد عدم قصد الجواب كما يقول العبد: طلعت الشمس فيقول السّيد اسقني ماء، فإنّ ذلك وإن بعد لكنه ليس بممتنع.

واعلم أن مثل ذلك إذا أخذ عنه بعض الأوصاف وعلل بالباقي سمّي تنقيح المناط.

مثاله في قصة الأعرابي أن يقال كونه أعرابيا لا مدخل له في العلّة، إذ الهندي أيضا كذلك، وكذا كون المحل أهلا فإن الزنا أيضا أجدر به، أو يقال وكونه وقاعا لا مدخل له فبقي كونه إفسادا للصوم فهو العلة. ومثال كون النظير للتعليل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم «وقد سألته الخثعمية أنّ أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته كان ينفعه ذلك قالت نعم قال فدين الله أحق بأن يقضى» «٢». سألته الخثعمية عن دين الله فذكر نظيره وهو دين الآدمي. فنبّه على التعليل به أي كونه علّة للنفع وإلّا لزم العبث، ففهم منه أن نظيره في المسئول عنه وهو دين الله كذلك علّة بمثل ذلك الحكم وهو النفع.

واعلم أنّ مثل هذا يسميه الأصوليون تنبيها على أصل القياس، وفيه كما ترى تنبيه على أصل القياس وعلى علّة الحكم فيه وعلى صحة إلحاق الفرع بها.

اعلم أنّ من مراتب الإيماء أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا له مثل قوله «لا يقضي القاضي وهو غضبان» «٣»، فإن فيه إيماء إلى أنّ الغضب علّة عدم جواز الحكم لأنه مشوش للمنظر وموجب للاضطراب، ومثل أكرم العلماء وأهن الجهّال. هذا إذا ذكر الوصف والحكم كلاهما فإنه إيماء بالاتفاق فإن ذكر أحدهما فقط مثل أن يذكر الوصف صريحا والحكم مستنبط نحو وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ «٤» فإن حل البيع وصف له قد ذكر فعلم منه حكمه وهو الصحة، أو أن يذكر الحكم والوصف مستنبط، وذلك كثير منه نحو حرمت الخمر فقد اختلف في أنه هل يكون إيماء، فهو على مذاهب. أحدها كلاهما إيماء. والثاني ليس


(١) اخرجه البخاري في صحيحه، ٣/ ٣١٨، عن أبي هريره، كتاب الهبة، باب إذا وهب هبة، الحديث رقم ٣٤، وأخرجه أيضا عن أبي هريره، ٨/ ٢٥٩، كتاب كفارات الإيمان، باب من أعان المعسر، الحديث رقم ٣، وأخرجه مسلم في صحيحه، ٢/ ٧٨١، عن أبي هريره، كتاب الصيام (١٣)، باب تغليط تحريم الجماع ... (١٤)، الحديث رقم ٨١/ ١١١١، أوله قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان.
(٢) اخرجه مسلم في صحيحه ٢/ ٨٠٤، عن ابن عباس، كتاب الصيام ١٣، باب قضاء الصيام عن الميت ٢٧، رقم ١٥٦.
(٣) اخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين، ١/ ١٤٧، وأخرجه النسائي في سننه، ٨/ ٢٤٧، عن ابي بكرة، باب النهي عن ان يقضي في قضاء (٣٢)؛ وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ١٠/ ١٠٥، عن ابي بكرة، كتاب آداب القاضي، باب لا يقضي وهو غضبان، بزيادة: بين اثنين، واخرجه مسلم في صحيحه، ٣/ ١٣٤٣، عن عبد الرحمن بن ابي بكرة، كتاب الأقضية (٣٠)، باب نزاهة قضاء القاضي .. (٧) الحديث رقم ١٦/ ١٧١٧، بلفظ: «لا يحكم احد بين اثنين وهو غضبان»
(٤) البقرة/ ٢٧٥.