للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الذي علم صدق القائلين فيه بالقرائن الزائدة كموافقة دليل عقلي أو غير ذلك.

اعلم أنّهم اختلفوا في إفادته العلم اليقيني فذهب السّمنية «١» والبراهمة إلى أنّ الخبر لا يكون حجة أصلا ولا يقع به العلم، لا علم اليقين ولا علم طمأنينة، بل يوجب ظنا. وذهب قوم منهم النظّام من المعتزلة وأبو عبد الله الثلجي «٢» من الفقهاء إلى أنه يوجب علم طمأنينة، فإنّ جانب الصدق يترجّح فيه بحيث يطمئن إليه القلوب فوق ما يطمئن بالظنّ، ولكن لا ينتفي عنه توهم الكذب والغلط. واتفق جمهور العقلاء على أنه يوجب علم اليقين واختلفوا في أنه يوجب علم اليقين علما ضروريا أو نظريا، فذهب عامتهم إلى أنه يوجب علما ضروريا وذهب أبو القاسم الكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة وأبو بكر الدقاق من أصحاب الشافعي إلى أنه يوجب علما استدلاليا.

فائدة:

ذكر للتواتر شروط صحيحة وفاسدة.

فالصحيحة ثلاثة كلّها في المخبرين. الأول تعددهم تعددا يبلغ في الكثرة إلى أن يمنع اتفاقهم وتواطئهم على الكذب عادة. فما اشترطه البعض من تعيين العدد فاسد. فقيل خمسة لا ما دونها. وقيل اثنا عشر. وقيل عشرون. وقيل أربعون. وقيل خمسون. وقيل سبعون. وفي شرح النخبة وقيل أربع وقيل سبعة وقيل عشرة. وفي خلاصة الخلاصة أقل عدد يورث العلم غير معلوم على الأصح، لكنّا نستدل بحصول العلم الضروري على كماله. ثم قال: أقول وظني أنّه يختلف بحسب المخبر والمخبر له، بل المخبر عنه، ولا يشترط فيه الكثرة إذ يجوز أن يحصل من خبر واحد علم يقيني كما في إخبار النبي عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى كالقرآن، بل إخبار شيخ عما رواه أو يراه لمريده ما لا يحصل من خبر عشرة آلاف، كما إذا أخبروا عن الله تعالى من غير وساطة نبي بالوحي أو ولي بالإلهام. ولذا عرّفه المحققون بما روي عمّن يمتنع في العادة كذبه سواء كان واحدا أو أكثر، ويؤيد ذلك ما روي في الأصل عن البزدوي «٣» أنه جعل كالمتواتر ما كان مرويّا عن آحاد الصحابة ثم انتشر، فنقله قوم لا يتصور اتفاقهم على الكذب. وقال هو حجة من حجج الله تعالى، حتى قال الجصّاص «٤» إنه أحد قسمي المتواتر، ويمتاز عنه بأنه يوجب علم يقين، وهذا علم طمأنينة.

ولا يخفى أنه يمكن أن يحصل منه اليقين أيضا والله أعلم انتهى. الثاني كونهم مستندين لذلك الخبر إلى الحسّ فإن خبر جماعة كثيرة في مثل حدوث العالم لا يفيد قطعا. الثالث استواء الطرفين والوسط أعني بلوغ جميع طبقات المخبرين في الأول والآخر والوسط بالغا ما بلغ


(١) السّمنية: هم قوم كانوا قبل الإسلام، ينفون النظر والاستدلال ويقولون بقدم العالم. الأسفرايني في التبصير ١٤٩.
(٢) هو محمد بن شجاع ابن الثلجي البغدادي، أبو عبد الله. ولد عام ١٨١ هـ/ ٧٩٧ م. وتوفي عام ٢٦٦ هـ/ ٨٨٠ م. فقيه العراق في وقته. من أصحاب أبي حنيفة كان يميل إلى الاعتزال. له عدة كتب هامة. الاعلام ٦/ ١٥٧، تذكرة الحفاظ ٢/ ١٨٤، التهذيب ٩/ ٢٢٠، الجواهر المضية ٢/ ٦٠، ميزان الاعتدال ٣/ ٧١، تاريخ بغداد ٥/ ٣٥٠، الوافي بالوفيات ٣/ ١٤٨.
(٣) هو علي بن محمد الحسين بن عبد الكريم، أبو الحسن، فخر الاسلام البزدوي. ولد عام ٤٠٠ هـ/ ١٠١٠ م. وتوفي عام ٤٨٢ هـ/ ١٠٨٩ م. فقيه أصولي. من أكابر الحنفية في عصره. له تصانيف كثيرة وهامة. الاعلام ٤/ ٣٢٨، الفوائد البهية ١٢٤، مفتاح السعادة ٢/ ٥٤، الجواهر المضية ١/ ٣٧٢.
(٤) هو أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص. ولد بالريّ عام ٣٠٥ هـ/ ٩١٧ م. وتوفي ببغداد عام ٣٧٠ هـ/ ٩٨٠ م. فقيه الحنفية في عصره. امتنع عن ولاية القضاء له عدة مؤلفات هامة. الاعلام ١/ ١٧١، الجواهر المضية ١/ ٨٤.