قَالَ: ثُمَّ هُمَّ بِالنُّزُولِ فَبَصُرَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمَعَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ هَوَاهُ يَتَنَاجَوْنَ، فَقَالَ: إِيهًا إِيهًا! أَسِرِارًا لا جِهَارًا! أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَحْنِقُ عَلَى جِرَّةٍ وَلا أُوتِيَ مِنْ ضَعْفِ مِرَّةٍ، وَلَوْلا النَّظَرُ لِي وَلَكُمْ، وَالرِّفْقُ بِي وَبِكُمْ لَعَاجَلْتُكُمْ فَقَدِ اغْتَرَرْتُمْ وَأَقَلْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.
ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ قَدْ تَعْلَمُ حُبِّي لِلْعَافِيَةِ فَأَلْبِسْنِيهَا، وَإِيثَارِي لِلسَّلامَةِ فَآتِينِهَا.
قَالَ: فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَامَ عَدِيُّ بْنُ الْخِيَارِ، فَقَالَ: أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ النِّعْمَةَ، وَزَادَكَ فِي الْكَرَامَةِ، وَاللَّهِ لأَنْ تُحْسَدَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ تَحْسُدَ، وَلأَنْ تُنَافَسَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُنَافِسَ، أَنْتَ وَاللَّهِ فِي حَسْبِنَا الصَّمِيمِ وَمَنْصبِنَا الْكَرِيمِ، إِنْ دَعَوْتَ أُجِبْتَ، وَإِنْ أَمَرْتَ أُطِعْتَ، فَقَلْ نَفْعَلْ، وَادْعُ تُجَبْ، جُعِلْتَ الْخَيَرَةَ وَالشُّورَى إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَخْتَارُوا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ مَكَانَكَ، وَيَعْرِفُونَ غَيْرَكَ، فَاخْتَارُوكَ مُنِيبِينَ طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ وَلا مُجْبَرِينَ، مَا غَيَّرْتَ، وَلا فَارَقْتَ وَلا بَدَّلْتَ، وَلا خَالَفْتَ، فَعَلامَ يُقَدِّمُونَ عَلَيْكَ وَهَذَا رَأْيُهُمْ فِيكَ! أَنْتَ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ:
اذْهَبْ إِلَيْكَ فَمَا لِلْحَسُودِ ... إِلا طِلابَكَ تَحْتَ الْعِشَارِ
حَكَمْتَ فَمَا جُرْتَ فِي خَلَّةٍ ... فَحُكْمُكَ بِالْحَقِّ بَادِي الْمَنَارِ
فَإِنْ يَسْبَعُوكَ فَسِرًّا وَقَدْ ... جَهَرْتَ بِسَيْفِكَ كُلَّ الْجِهَارِ
قَالَ: وَنَزَلَ عُثْمَانُ فَأَتَى مَنْزِلَهُ، وَأَتَاهُ النَّاسُ، وَفِيهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لِي وَلَكُمْ يَابْنَ عَبَّاسٍ! مَا أَغْرَاكُمْ بِي، وَأَوْلَعَكُمْ بِتَعَقُّبِ أَمْرِي! أَتَنْقِمُونَ عَلَيَّ أَمْرَ الْعَامَّةِ؟ أَتَيْتُ مِنْ وَرَاءِ حُقُوقِهِمْ، أَمْ أَمْركُمْ، فَقَدْ جَعَلْتُهُمْ يَتَمَنَّوْنَ مَنْزِلَتَكُمْ،! لا وَاللَّهِ لَكِنَّ الْحَسَدَ وَالْبَغْيَ وَتَثْوِيرَ الشَّرِّ وَإِحْيَاءَ الْفِتَنِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَلْقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ ذَلِكَ وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا! وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا أَنَا بِمَكْذُوبٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى رِسْلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللَّهِ مَا عَهِدْتُكَ جَهِرًا بِسِرِّكَ، وَلا مُظْهِرًا مَا فِي نَفْسِكَ، فَمَا الَّذِي هَيَّجَكَ وَثَوَّرَكَ؟ إِنَّا لَمْ يُولِعْنَا بِكَ أَمْرٌ، وَلَمْ نَتَعَقَّبْ أَمْرَكَ بِشَيْءٍ، أُتِيتَ بِالْكَذِبِ، وَتُسُوِّقَ عَلَيْكَ بِالْبَاطِلِ.
وَاللَّهِ مَا نَقِمْنَا عَلَيْكَ لَنَا وَلا لِلْعَامَّةِ، قَدْ أُوتِيتَ مِنْ وَرَاءِ حُقُوقِنَا وُحُقُوقَهُمْ، وَقَضَيْتَ مَا يَلْزَمُكَ لَنَا وَلَهُمْ، فَأَمَّا الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ وَتَثْوِيرُ الْفِتَنِ وَإِحْيَاءُ الشَّرِّ فَمَتَى رَضِيَتْ بِهِ عِتْرَةُ النَّبِيِّ وَأَهْلُ بَيْتِهِ؟ وَكَيْفَ وَهُمْ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، عَلَى دِينِ اللَّهِ، يَثُورُونَ الشَّرَّ، أَمْ عَلَى اللَّهِ يُحْيُونَ الْفِتَنَ؟ كَلا لَيْسَ الْبَغْيُ وَلا الْحَسَدُ مِنْ طِبَاعِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute