قَالَ: هَاتُوا فَجَلَسَ الْقَوْمُ، وَمَثَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ بَيْنَ يَدَيِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جَاءَتْكَ عِصَابَةٌ مِنْ رَهْطِكَ، وَأَحْرَارٌ مِنْ أُسْرَتِكَ، كُلُّهُمْ عَارِفٌ بِفَضْلِكَ، رَاعٍ لِحَقِّكَ، تَابِعٌ لأمْرِكَ، رَافِعٌ لِذِكْرِكَ، فِي أَمْرٍ سِتْرُهُ خَيْرٌ مِنْ نَشْرِهِ، وَتَرْكُهُ خُيرٌ مِنْ ذِكْرِهِ، لِعِظَمِ الْبَلِيَّةِ وَالْخَطِيئَةِ وَاللأْوَاءِ، وَالْبَلْوَى وَالآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِكَ تَجَنِّيًا، وَلا تَجَرُّمًا، وَلا تَعتُّبًا.
بَلْ جِئْنَاكَ فِي أَمْرٍ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ حَمْلِهِ الْجُنُوبُ، وَضَاقَتْ بِهِ الْقُلُوبُ، وَكَرِهْنَا أنْ نَطْوِيَهُ عَنْكَ، فَيَثْبُتَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِنَا، مَا لا يُحْصَدُ لإِبَّانِهِ، وَلا يَبِيدُ لِزَمَانِهِ، فَإِنْ تَأذَنْ قَبِلْنَا، وَإِنْ تَأْبَ صَمَتْنَا، مَعَ أَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا نُحِبُّ حَمَدْنَا وَشَكَرْنَا، وَإِنْ تَأْبَ ذَلِكَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَاتِ لِلِّهِ أَبُوكَ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَلَدَ عَشْرَةً ذُكُورًا، وَلَدَ حَرْبًا وَأَبَا حَرْبٍ، وَسُفْيَانَ وَأَبَا سُفْيَانَ، وَعَمْرًا وَأَبَا عَمْرٍو، وَالْعَاصِيَ وَأَبَا الْعَاصِي، وَالْعِيصَ وَأَبَا الْعِيصِ، لَمْ يَلِدْ عُبَيْدًا عَبْدَ ثَقِيفٍ، وَلا الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ، وَقَدْ جَعَلْتَهُمَا شِعَارَكَ دُونَ دِثَارِكَ، بَلْ سِرْبَالَكَ دُونَ إِزَارِكَ، بَلْ نَفْسَكَ بَيْنَ جَنْبَيْكَ، ثُمَّ لَمْ تَرْضَ لابْنِ عُبَيْدٍ حَتَّى جَعَلْتَهُ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَضِيهَةً لِأَبِيكَ، وَازْدِرَاءً بِبَنِيكَ، وَمَعَ أَنَّ فِي ذَلِكَ السَّخْطَةَ مِنْ رَبِّكَ، وَالْمُخَالَفَةَ لِنَبِيِّكَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرَ، فَقَضَيْتَ أَنْتَ بِالْوَلِدِ، ثُمَّ نَسَبْتَ أَبَاكَ عَاهِرًا، وَكَانَ غَنِيًّا عَنْ ذَلِكَ، فَشَهَرْتَ أَمْرًا كَانَ مَسْتُورًا، وَرَفَعْتَ أَمْرًا كَانَ حَقِيرًا، تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَهُ عَلَى حُرُمِكَ، وَتَمْنَحَ وَلَدَهْ غدًا نِسَاءَكَ.
ثُمَّ قَالَ:
أَتَرْضَى يَا مُعَاوِيَةُ بْنَ حَرْبٍ ... بَأَنْ تَحْبُو كَرَائِمُكَ الْعَبِيدَا
كَأَنِّي وَالَّذِي أَصْبَحْتُ عَبْدًا ... لَهُ بِالْقَوْمِ قَدْ شَرَكُوا يَزِيدَا
فَإِنْ تَرْجِعْ فَمَثْلُكَ زَادَ خَيْرًا ... وَإِنْ تَأبَ فَلَمْ تُطِعِ الرَّشِيدَا
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَإِنَّكَ أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ الْحَاجَةَ إِلَيْهَ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْغِنَى عَنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَنَحْنُ أَنْصَعُ جُيُوبًا، وَأَقَلُّ عُيُوبًا، وَأَمَسُّ رَحِمًا، وَأَوْجَبُ حَقًّا مِنْهُ، وَمَا مَنْ أَمْرٍ يَبْلُغُ فِيهِ بِنَا عَنْهُ تَقْصِيرٌ، غَيْرَ أَنَّكَ رَفَعْتَ الْمَرْءَ فَوْقَ قَدْرِهِ، فَطَغَى عَلَيْنَا بِفَخْرِهِ، وَزَخَرَ بِبَحْرِهِ، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَليسَ بِشَيْءٍ.
وَإِنَّكَ وَإِيَّاهُ وَإِيَّانَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الأَوَّلُ:
مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُ الأَبْعَدِينَ ... وَيَشْقَى بِهِ الأَقْرَبُ الأَقْرَبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute