لا حاجة إلى القول، بأن ما نصطلح عليه هو غير تلك اللغة المصطلح عليها قبلنا، والتي نريد الاحتجاج لها كما هو المفروض؛ لأن اصطلاحنا الجديد إن لم يكن غير المصطلح القديم، كان نفسه أو مماثلًا له، فيكون اصطلاحنا على هذا تحصيلًا للحاصل ولا فائدة منه. فكيف لا يكونون أولى منا؟ وأين مكان الأولوية لوضعنا الجديد؟ ولو صح لكل متكلم أن يقول: أنا اصطلحت وأنا وضعت، لكانت الفوضى بعينها، وهل الفوضى غير ذلك؟
أما إحداث الألفاظ الجديدة، فإن كان لمعان جديدة طارئة على اللغة لم تكن قبل، فهو صحيح لا غبار عليه، ولا يجوز أن يكون مثله محظورًا. والمعاني تتجدد على مرور الزمن بتجدد حوادث العالم، وابن فارس نفسه يقول:"إن حوادث العالم لا تنقضي إلا بانقضائه ولا تزول إلا بزواله.".
وإن كان إحداثها لمعان ليست طارئة بل لها مسميات في اللغة وأسماء، فإن كان لزيادة في المعنى أو نقصان، أو لنكتة سائغة أو لمقتضيات أخر فلا بأس، ولا يعارض ذلك الوضع القديم؛ وإن كان ليس لشيء من ذلك بل لشهوة الوضع وحب التفنن فيه وإظهار الحذق، فهو لزوم ما لا يلزم، وهو غير مرغوب فيه بل هو مما يرغب عنه.
اللغة مواضعة واصطلاح:
قال ابن جني في الخصائص:"إن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف. وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا يحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات فيضعون لكل سمة لفظًا إذا ذكر عرف به مسماه.". ثم قال:"ولابد لأولها من أن يكون تواضعًا بالمشاهدة والإيماء.".
الظاهر أن هذا القول كسابقه لا يعترف بتطور اللغة، والظاهر أيضًا، أن القائلين به يريدون أصل كل اللغات بدليل قول ابن جني:"ولابد لأولها من أن يكون تواضعًا بالمشاهدة والإيماء" وإن الحكماء يجمعونه ليضعوا بطريق المشاهدة والإيماء أسماء لمسميات. فهؤلاء الحكماء، إما أن يكونوا ليسوا بذوي لغة أصلًا كما هو الظاهر، فلا أعلم، بل لا أتصور كيف يفي الإماء بحاجاتهم في مثل اجتماعهم هذا، المنعقد لوضع ألفاظ ثابتة على الدهر، للغة لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتحرف، وهم ليسوا بأصحاب لغة؛ ولا كيف كانوا حكماء واضعين وليس لهم لغة تصل بهم إلى الحكمة ليكونوا فيها بهذه المرتبة التي لا يبلغها أحد بغير التعلم. والعلم ينحصر بالفهم الذي لا يكاد يتم على الوجه الأوفى أو الوافي على الأقل بغير مطارحة الكلام المتوقفة على معرفة اللغة. وإما أن يكون هؤلاء الحكماء أولي لغة سابقة واجتمعوا لإحداث لغة جديدة، فلا إخال أن الباحثين عن أصل