للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللغات يريدونه. ثم لا أعلم ما الفائدة لقوم أولي صالحة للتفاهم، يجتمعون لإحداث لغة جديدة على لغتهم، إلا إذا كانوا يريدون تهذيب اللغة والتوسع فيها بوضع ألفاظ لمعان طارئة بحوادث الزمن كما تفعل المجامع اللغوية اليوم. فهم إذًا على هذا ليسوا بواضعين، وإنما هم مهذبون، وهو غير مراد في هذا البحث.

اللغة أصوات طبيعية عامة:

قال ابن جني: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو الأصوات المسموعة كحنين الريح، ودوي الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونغيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات من ذلك فيما بعد". قال: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب مقتبل.".

أو ليس بغريب أن نسمع من مثل ابن جني هذا القول، المبني على إعمالا الفكر المجرد دون تقيد بتقاليد سابقة، فكان في ذلك على غير سنن الكثير من علماء عصره؟ وإنه لم يرض أن يكون القول بالإلهام والوحي قولًا برأسه، بل صرفه بالتأويل المقبول إلى غير ما حملوه عليه فقال: "إن أبا علي قال لي يومًا: هي من عند الله، واحتج بقوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها." وهذا لا يتناول موضع الخلاف لأنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله لا محالة، فإذا كان ذلك غير مستنكر سقط الاستدلال."

وهذا لمذهب قال به جماعة من المتأخرين مثل "آدم سميث" و"دوكلد ستيورت" ونقل عنهم: أن الإنسان كان يعبر عما في ضميره بالإشارات والحركات حتى تكاثرت، فجعل يحكي الأصوات التي يسمعها، فكان إذا أراد أن يشير إلى الغراب قال: غاق، ولما وجد حكاية الأصوات هذه تفي بالمقصود اعتمد عليها فحصلت منها أصوات اللغة؛ ثم طرأ عليها التركيب والنحت والحذف والتغيير وما شاكل، فتألفت سائر ألفاظ عن كل خاطر يخطر في النفس (١).

مذهب ابن جني:

لكن ابن جني لم يمض في الجزم بترجيحه هذا الرأي على غيره، بل تردد فقال: "واعلم أنني، على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضوع، فأجد الدواعي والخوالج قائمة التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري، وذلك لأنني تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، فوجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاب والرقة ما ملك على جانب الفكر، فعرضت


(١) المقطف: م ٦ ص: ٩٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>