فلكل منها غير ما لصاحبه. وفي الإنسان قوة من شأنها التعبير عما في ضميره بكلمات ملفوظ فكان الفكر أول ما يجول في دماغه، كأنه يقرع تلك القوة فتصوت بألفاظ يفهم الفكر منها، وهذه الألفاظ هي أصول اللغة، ثم تقلبت عليها أطوار التعبير والتركيب فتألفت مفردات اللغة. ولما تم الاستنباط درج عليها الاستعمال ولم يبق لهذه القوة من حاجة، فأهملت وتضعضعت ولم تعد تحس، كما يضعف البصر والسمع لقلة الاستعمال."
في هذا الرأي نظر، وذلك لأن خلاصة ما فهمته من هذا المذهب أمران:
الأول: قرع الفكر عند جولانه لتلك القوة، وأنه صوت طبيعي لها كرنة الذهب إذا قرع. فالصوت لازم طبعًا لهذه القوة عند جولان الفكر، ويفهم الفكر من هذا الصوت، وهذه هي أصول اللغة.
الثاني: أنه بعد أن تم استنباط الأصول من هذا الصوت الطبيعي قل قرع الفكر لهذه القوة، فأهمت فلم تعد تحس لقلة الاستعمال، وإذا كان هذا الصوت نتيجة طبيعية لجولان الفكر كان غير اختياري، لأن ما يكون بالطبع لا مجال فيه للاختيار.
لكنا لا نعلم كيف يحصل الإهمال للقوة حتى يقل قرع الفكر لها، مع أن الفكر في الإنسان لا يسكن في نوم ولا يقظة، فهو دائم الجولان فيكون دائم القرع. وهذا حكم اللازم الطبيعي وإلا لم يكن لازمًا، فتكون هذه الأصوات دائمة ما دام القرع، لأن علة لها، فتكون دائمة ما دام الفكر. والفكر دائم، فهي دائمة. فمن أين أتى هذا الإهمال؟
نعم إن استنباط الألفاظ الأصول يقلل المبالاة بالأصوات المذكورة، ولكنه لا يضعفها لأنه نتيجة طبيعية للفكر. والفكر مستعمل دائمًا فكيف يتأتى الإهمال فالضعف؟ فإذا هي غير مهملة فلا تضعف فلا تفقد. ولكن الواقع المحسوس به أنها مفقودة ولا دليل على وجودها سوى: الحدس والافتراض، وهما غير الحس والوجود، فلا يرويان غلة ولا يؤيدان دعوى.
خير ما يقال في أصل اللغة:
وهو الذي يمكن أن يستقر عليه الرأي من تلك الأقوال ومن القياس على الأشباه والنظائر. إن اللغة نشأت متدرجة من إيماء وإشارات إلى مقاطع صوتية على أبسط ما تكون، وفيها تقليد وحكايات للأصوات الطارئة على سمع الإنسان، طبيعية كانت أو غير طبيعية، مختلفة باختلاف المناسبات الطبيعية أو المرتجلة من القوة والضعف، والقرب والبعد. وكان للبيئة والزمان والأحوال