اليمن الذين تديروها قبلهم، وتولوا السلطة فيها، غلبت أر ذوي السلطان على من سواهم في دولتهم، ولعب فيها التطور فتشعبت كما تشعبت الشماليين العدنانية. وكانت الدولة الحميرية في الجنوب عندما تميزت لغة العمالقة عن لغة الشمال، فسميت لغة الجنوب بالغة الحميرية، وصارت إليها أكثر لهجات اليمن تقليدًا، ولكن العربية السعيدة لم تبق لها سعادتها، فطوحت بها الطوائح، وتفرقت قبائلها بالسيل العرم، فضربوا في أقطار الجزيرة بين إخوانهم عرب الشمال، ولم يكونوا بينهم غرباء عنهم، بل كانوا إخوانًا كرامًا أعزة. وكثر الامتزاج والاختلاط، وضعفت السلطة وبادت، فضعف شأن الحميرية وحلت محلها اللغة العدنانية، لغة الشعر والخطابة، حيث كانوا الشماليون، وأكثرهم أهل وبر ليس لهم من المدر سوى مدن قليلة حضرية في استيطانها، بدوية في أخلاقها وعاداتها.
كانوا لا تشغلهم زخارف المدنية التي تتوسع معها الحاجات كما استبحرت لأنهم ما عرفوها أو لم يريدوا أن يعرفوها، فاقتصر همهم على ما لديهم من وسائل العيش، وهي عندهم قليلة النفقة. وإنما يقوى الانصراف إلى المادة إذا كثرت الحاجة إليها، وتقوى الروح إذا قل الانصراف إلى المادة.
كانوا بحكم الطبع يشتغلون بالكماليات، ويزيدهم بها عناية، وإليها انصرافًا مباهاتهم ومفاخراتهم بالأحساب والأنساب والكرم وحفظ الذمام. وتلك شيمة أهل الوبر، فأصبحوا بذلك أعم الأمم بأنسابهم حتى بأنساب خيلهم وإبلهم. والمنافرات والتحدث بالغزوات يجلب بالطبع العناية بالبيان وبطرقه، وبتخير الألفاظ العذبة لتأخذ في السامع أثرها.
بهذا وبأمثاله كان للبيان والفصاحة عندهم المحل الأول. تخيروا عذب الكلام، وهم أصفى الأمم أذهانًا مما تبعثه فيهم بيئتهم النقية وسماؤهم الصافية، فكانوا في تخيرهم من أبعد الأمم غورًا في هذا السبيل. وكانت اللغة المهذبة تدعو إلى حظيرتها سائر اللهجات الغربية مهما بعدت عنها، ولو كانت أجنبية عنها لعصت عليها ولم تنقد. ودام ذلك إلى أن اتحدت بها أو فنيت بجانبها حتى الحميرية وبقاياها (١)، ولم يبق للحميرية غير مفردات مذكورة في تضاعيف كتب الأئمة. وبقي من هذه اللهجات أو اللغات إلى زمن العصر الإسلامي مخلفات يسيرة، كالطمطمانية والشنشنة والوشم وغير ذلك.
وبعد أن نزل القرآن بأحسن اللغات العربية، وظهرت بها السنة النبوية، وكان أتباع القرآن والسنة هو الدين الغالب في الأقطار العربي جمعاء، وكان لهذا الملأ من قريش، الدولة
(١) يقول العالم رينان في كتابه اللغات السامية: إنه ليس للجهة حمير ولسان الحبشية مكان رئيسي في اللغات السامية، وإنما هما بمثابة أداتين هيأتا مجال الظهور للعربية المحضة الحجازية.