قال ابن فارس:"أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم، أن قريشًا أفصح العرب السنة وأصفاهم لغة. وذلك أن الله، عز وجل ثناؤه، اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبي الرحمة محمدًا، صلى الله عليه وسلم. فجعل قريشًا قطان وحرمه وجيران بيته وولاته. فكانت وفود العرب من حجاجهم وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها وتسميهم أهلا الله لأنهم الصريح من ولد إسماعيل، عليه السلام، لمن تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضلًا من الله، جل ثناؤه، لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروه من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب."
وفي لسان العرب، عن قتادة، قال: كانت قريش تجتبي (أي تختار) أفضل لغات العرب، حتى صارت لغتها أفضل لغاتهم. فنزل القرآن بها وتحدى العرب وفصحاءهم أن يأتوا بمثله تحديًا يدل عل عظيم منزلة البلاغة عندهم.
ومن كانت هذه حالهم في تهذيب لغتهم بين أمة ترى لغتها من أكبر مفاخرها، كانوا قدوة في قومهم، بهم يقتدي وعلى مثالهم يحتذي.
هكذا كان سريان التقريب، بل التوحيد في لغات العرب، وهكذا كان جمع الشتات إلى لغة واحدة.
وكأنني من وراء خمسة عشر قرنًا انظر وفد الحجاز عند سيف بن ذي يزن، ملك اليمن، وسليل الأذواء من ملوك حمير، وطارد الأحباش عن أرض العرب، ارض اليمن، ارض آبائه وأجداده؛ وعلى رأس ذلك الوفد شيخ البطحاء وسيد قريش عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف يخطب ببيانه القرشي العدناني وبلاغته العذبة الهاشمية. وسيد اليمن بل سيد حمير يصغي إليه وهو يهنئه بنصره وبجلوسه على عرش آبائه، ثم يسمع شاعر الوفد أمية بن أبي الصلت ينشد قصيدته بلهجته الفصحى ويقول:
لا تطلب الثأر إلا كابن ذي يزن ... إذ خيمي البحر للأعداء أهوالًا
فاشرب هنيئًا عليك التاج مرتفعًا ... في رأس غمدان دارًا منك محلالًا
يصغي إليهما طروبًا لا يجد غرابة فيما يتكلمان به، بلا طرب عربي قح فتح للغة عربية خالصة