للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن لم تكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: "ليس ذلك مثل هذا" ونحو ذلك، وإذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق. وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط" (١).

قلت: هذا الذي ذكره ابن أبي العز رحمه الله تعالى. حقيقة واقعة اعترف بها أبو منصور الماتريدي أيضاً حيث يقول:"وليس في إثبات الأسماء، وتحقيق الصفات تشابه لنفي حقائق ما في الخلق عنه كالهستية - (كلمة فارسية بمعنى الوجود) - والثبات ولكن الأسماء لما لم يحتمل التعريف، ولا تحقيق الذات بحق الربوبية إلا بذلك، إذ لا وجه لمعرفة غائب إلا بدلالة الشاهد، ثم إذا أريد الوصف بالعلو، والإجلال فذلك طريق المعرفة في المشاهد، وإمكان القول، إذ لا يحتمل وسعنا العرفان بالتسمية بغير الذي شاهدنا .. ، لكن أردنا به ما يسقط الشبه من قولنا: "عالم لا كالعلماء"، وهذا النوع في كل ما نسميه به، ونصفه، والله الموفق" (٢).

قلت: الحاصل: أن القدر المشترك بين الأشياء مما لابد منه للتفاهم، وأنه لا يستلزم التشبيه لأن التشبيه ينتفي بمجرد الإضافة والتقييد، والتخصيص، ولاسيما إذا قلنا: "عالم لا كالعلماء" فوصف الله تعالى بالصفات الكمالية بلا تكييف ولا تمثيل ليست فيه رائحة التشبيه، بل هذا عين التنزيه.

الوجه السادس: أن ظاهر كل نص يختلف حسب سماع كل سامع فقد يظهر لسامع أن إثبات الصفات لله تعالى تشبيه ولا يظهر لسامع آخر؛ وسبب ذلك تغير الفطرة وفساد البيئة؛ فإذا كان السامع لنصوص الصفات سليم القلب صحيح الفطرة، ولم يتأثر ببيئةٍ فاسدةٍ فلسفية كلامية - لم يفهم منها إلا ما هو اللائق بالله تعالى ولا يخطر بباله رائحة التمثيل والتشبيه؛ فأقحاح العرب في جاهلية والإسلام حين سمعوا كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الصفات لم يقل أحد منهم إن ظاهره التشبيه أو ظاهره غير مراد، وهكذا خيار هذه الأمة بعد الصحابة التابعون وأتباعهم مضوا على هذا من دون نكير ولا ارتياب ولا تأويل، ولا تفويض مزور، بل كان إثبات الصفات بلا تشبيه، وتنزيه الله بلا تعطيل أمراً جِبِلّيًّا فُطِرَتْ قلوبهم على ذلك فكانوا يعرفون ذلك من أعماق قلوبهم من دون الحاجة إلى الدراسة (٣).

وبعكس ذلك، إذا كان السامع لنصوص الصفات فاسد القلب والفطرة والعقل متأثراً ببيئة منتنة فلسفية كلامية غريقاً في ظلمات بعضها فوق بعض غريقاً في بحر لجي يغشاه موجٌ فوقه موجٌ - فهو ليلاً ونهاراً يفكر في التشبيه. والتمثيل، والتنزيه، والتركيب، والجهة، والحيز، وغيرها من المصطلحات الفلسفية الكلامية.


(١) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص ١٠٦ – ١٠٧)، وانظر أيضاً ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري الحنفي (ص ٦١ - ٦٢)، وراجع أيضاً ((التدمرية)) (ص ٤٢ - ٤٣)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٣/ ٢٤)، و ((شرح حديث النزول)) (٢٠ - ٢٣)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٥/ ٣٤٦ - ٣٥١).
(٢) ((كتاب التوحيد)): (ص ٢٤، ٢٥، ٤٢، ٩٣، ٩٤). ونقله أبو الخير في ((عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي)) (ص ٣٥٧)، وأقره.
(٣) انظر ((التفصيل في أعلام الموقعين)) (١/ ٤٩)، و ((الخطط للمقريزي)) (٢/ ٣٥٦)، وايضاً راجع إلى بحث مهم في هذا الموضوع عند العلامة المعلمي في ((القائد إلى تصحيح العقائد)) (ص١٢٣ - ١٢٤ - ، ١٨٤ - ١٨٥)، و ((التنكيل)) (٢/ ٢٩٥ - ٢٩٦، ٣٥٦ - ٣٥٧)، واعترف به أبو الخير الماتريدي في ((عقيدة الإسلام)) (ص ٢١ - ٢٣). وانظر أيضا ((الصواعق المرسلة)) (١/ ٢٠٨ - ٢١١)، و ((مختصر الصواعق)) (١/ ١٥ - ١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>