[المبحث الأول: الرد على الماتريدية في عدم الاحتجاج بخبر الآحاد في العقيدة]
إن موقف الماتريدية من أخبار الآحاد مركبٌ من المقدمات الثلاث - كما سبق-:
١ - أخبار الآحاد ظنية لا تفيد اليقين.
٢ - لا يحتج بها في باب الاعتقاد، وتصلح للعمليات.
٣ - إن وردت في مخالفة العقل؛ فإن كانت نصاً ترد، وإلا يفوض مرادها أو تؤول إلى ما يوافق العقل.
ونحن نعارض الماتريدية في جميع هذه المقدمات معارضة علمية على وجه البصيرة بتوفيق الله تعالى فنقول:
أولاً: القول بعدم الاحتجاج بأخبار الآحاد في العقيدة قولٌ مبتدع مخالفٌ لطريقة السلف المتوارثة ولاسيما منهج الإمام أبي حنيفة وأصحابه الأوائل.
ثانيا: أحاديث الصفات ليست أخبار الآحاد، بل هي من قبيل المشهورات والمتواترات فلا يصح زعمكم أنها ظنية.
ثالثا: أحاديث الصفات ليست أخبار الآحاد مجردة بل هي موافقة لكتاب الله والعقل الصريح والفطرة السليمة في الدلالة على صفات الله تعالى فلا يصح قولكم: إنها ظنية.
ورابعاً: القول بظنية أخبار الآحاد، هكذا مطلق العنان - لا يصح لأن أخبار الآحاد المحتفة بقرائن الصحة - بجميع أنواعها - مفيدةٌ للعلم اليقيني فهي كالمشهورات والمتواترات كل ذلك باعترافكم.
وخامساً: لو سلمنا مقدماتكم - على سبيل فرض المحال - لنقولُ: إن المراد من العمل أعم من عمل الجوارح، فيشمل عمل القلب، فصح الاحتجاج بخبر الواحد في باب العقيدة حتى باعترافكم أيضاً.
الوجه الأول:
أن القول بأن أخبار الآحاد ظنية لا تصلح لإثبات العقيدة والفرق بين أبواب العقيدة، وبين أبواب الأحكام وأن أخبار الآحاد تصلح للأحكام دون العقائد - قول مبتدع في الإسلام ابتدعه طوائف الجهمية من المتكلمين ثم دب إلى بعض الأصوليين والفقهاء.
وأنه مخالف لما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة هذا الدين. حيث يحصل لهم العلم من تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي رويت من طريق الثقات الأثبات، ولو سلمنا أنها لا تفيد العلم اليقيني - كما هو زعم المتكلمين - لا نسلم هذه التفرقة: من أن أخبار الآحاد تصلح لإثبات الأحكام العملية ولا تصلح للمباحث العقدية العلمية. لأن هذه التفرقة هي خلاف ما أجمع عليه السلف بل هذه التفرقة أصل من أصول الضلال.
١ - قال إمام عصره المجمع على إمامته أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني (٤٨٩هـ) جد صاحب الأنساب:
قولهم: إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم - رأي سمعت به المبتدعة في رد الأخبار.
إذ أن الخبر إذا صح ورواه الثقات والأئمة، وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم، وهذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة. وأما هذا القول المبتدع فقول القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار. وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول، ولو أنصف أهل الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم. ثم ذكر الإمام السمعاني أدلة قاطعة على ذلك وبين بالحجج الدامغة أن منهج النقد عند المحدثين منهج متين رصين، لا يغادر للظنين طنيناً بل يورث يقيناً (١).
٢ - وقال ابن القيم على سبيل التسليم: "إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها.
(١) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (٢/ ٥٠٤ - ٥٠٨) عن كتاب ((الانتصار)) لأبي المظفر السمعاني باختصار، وأقره الكوثري.