للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: منهج المعتزلة في تعامله مع اللغة العربية لتقرير العقائد]

بدأ هذا التيار مع ظهور المعتزلة في القرن الثاني الهجري وما بعده، ويعود بروزه إلى عناية المعتزلة باللغة العربية واهتمامهم بها طلباً لدعم أصولها باللغة، واحتضان بعض خلفاء بني العباس للمعتزلة، ومساعدتهم لهم على ترويج بضاعتهم الفكرية، وبلغ أوج مجده في القرن الرابع الهجري إبان الدولة البويهية، وبالتحديد أيام عضد الدولة البويهي "ت ٣٧٢هـ"، والصاحب بن عباد "ت ٣٨٥هـ"، وأبي علي الفارسي "ت ٣٧٧هـ"، وابن جني "ت ٣٩٢هـ"، والرماني "ت ٣٨٤"، والشريف الرضي "ت ٤٠٦هـ"، واستمر على الوتيرة نفسها حتى القرن الخامس الهجري، ثم بدأ يضعف بعد القرن السادس الهجري نظراً لتقلص دور المعتزلة بوجه عام، وبروز الأشعرية كقوة منافسة لهم، وممن اشتهر بهذا المنهج الاعتزالي قطرب "ت ٢٠٦هـ"، والأخفش الأوسط "ت ٢١٥هـ"، والجاحظ "ت ٢٥٥هـ"، وأبو علي الفارسي "ت ٣٧٧هـ"، وابن جني "ت ٣٩٢هـ"، والرماني "ت ٣٨٤هـ"، والشريف الرضي "ت ٤٠٦هـ"، وأخوه المرتضى "ت ٤٣٦هـ" وجار الله محمود بن عمر الزمخشري "ت ٥٣٨هـ"، وغيرهم.

وللمنهج الاعتزالي في تعامله مع اللغة العربية لتقرير العقائد سمات، منها ما يلي:

- الاعتماد على العقل في تفسير المفردات الشرعية اللغوية:

لما كان العقل مرتكز المعتزلة الأول لتقرير العقائد، جعلوه حكماً على غيره من المصطلحات الشرعية واللغوية، دون مراعاة لما تعرفه العرب من لغاتها، ما تدل عليه النصوص من المعاني الشرعية بصيغها العربية، فعلى ضوئه فسروا المفردات الشرعية واللغوية معتبرين ما يوافق أهواءهم، وأوضح مثال على ذلك: الاستواء، فإنه في اللغة دال على الارتفاع والعلو، لكن المعتزلة استخدموا العقل في تفسيره فحملوه على الاستيلاء والاقتدار؛ لأن العقل قد دل عندهم على تنزيه الله عن الأماكن والجهات. قال القاضي عبدالجبار "ت ٤١٥هـ" في الاستواء: "قد بينا أن المراد بالاستواء هو الاستيلاء والاقتدار، وبينا شواهد ذلك في اللغة والشعر، وبينا أن القول إذا احتمل هذا والاستواء الذي هو بمعنى الانتصاب وجب حمله عليه؛ لأن العقل قد اقتضاه، من حيث دل أنه تعالى قديم، ولو كان جسماً يجوز عليه الإمكان لكان محدثاً، تعالى الله عن ذلك" (١).وقال الشريف المرتضى "ت ٤٣٦هـ" وهو من لغويي القرن الرابع والخامس: "فكل ما ورد في القرآن مما له ظاهر ينافي العصمة، ويقتضي وقوع الخطأ منهم، فلابد من صرف الكلام عن ظاهره، وحمله على ما يليق بأدلة العقول؛ لأن الكلام يدخله الحقيقة والمجاز، ويعدل المتكلم به عن ظاهره، وأدلة العقول لا يصح فيها ذلك، ألا ترى أن القرآن قد ورد بما لا يجوز على الله تعالى من الحركة والانتقال كقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢]، وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ [البقرة: ٢١٠]، ولابد مع وضوح الأدلة على أن الله تعالى ليس بجسم، واستحالة الانتقال عليه، الذي لا يجوز إلا على الأجسام، من تأول هذه الظواهر، والعدول عما يقتضيه صريح ألفاظها، قرب التأويل أو بعد" (٢).


(١) ((متشابه القرآن)) (١/ ٣١٥).
(٢) ((أمالي المرتضى)) (٢/ ٣٩٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>