للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الأول: التطور الفكري للمعتزلة من خصائص الفكرة المبتدعة – ومثلها في ذلك مثل كل الأفكار البشرية الاعتقادية – أنها عادة تبدأ بسيطة ساذجة في اللفظ والمعنى، ثم لا تلبث أن تتعقد وتتفرع، بل تتغير وتتبدل، ثم تتناقض وتتضارب، وإذا كثير من مبادئها الأولية قد تغيرت بشكل تام. وهي في كل ذلك تسير من سيئ إلى أسوأ، وتزداد انحرافا وبعدا عن السنة، وما ذلك إلا لاعتمادها على العقل فيما لا يدركه العقل؛ لذلك قد قيل إن صاحب البدعة لا ترجى له توبة (١) فهو يتنقل من حال إلى حال أسوأ كلما أوغل في بدعته، أما من تمسك بالنصوص الثابتة الجلية والقواعد الصحيحة البينة فلا مجال لانحرافه، إذ أن الأمر دائر بين ثبوت النص وقواعد الفقه فيه، وهما أمران واضحان عند أهل السنة والجماعة حسب منهجهم.

وقد ظهر ذلك الأمر جليا في فكر المعتزلة وتطور مقالاتهم خلال ثلاثة قرون هي فترة حياة الاعتزال كفرقة مستقلة واضحة. وهو ما سنحاول تتبعه بشكل موجز في الصفحات القليلة التالية:

أولا – بدايات الاعتزال:

ظهر فكر الاعتزال – كما أشرنا من قبل – قبل ظهور الفرقة نفسها بشكل مستقل، فقد تكلم الجعد بن درهم ومن بعده الجهم بن صفوان في نفي الصفات وكان الجعد تلميذا لوهب بن منبه الذي أنكر عليه قوله ذاك. يقول ابن تيمية: "إن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أي أن الله سبحانه ليس على العرش حقيقة وإن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه (٢).وهناك رواية ترجع أصول ذلك الفكر عند الجعد إلى أصول يهودية فلسفية، إذ أنه قد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت، وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي (٣). وقد ذكر أن الجهم أخذ تلك المقالة من الجعد، كما قيل أن مناقشاته مع فرقة السمنية قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات (٤).

وعلى كل حال فالقصتان تدلان على الأثر الخارجي الذي أدى إلى القول بتعطيل الصفات. كما أن أثر يوحنا الدمشقي وأقواله تعتبر موردا من موارد الفكر الاعتزالي، إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية (٥).أما عن مقالة خلق القرآن فكان أول من قال بها الجعد بن درهم سنة نيف وعشرين ومائة في خلافة هشام، وأخذها عنه بشر المريسي وكان صباغا يهوديا (٦).وأما عن نفي القدر فقد ظهرت هذه البدعة على يحيى الدمشقي ومعبد الجهني وغيلان الدمشقي وقد قيل إنهما أخذاها عن نصراني يدعى سوسن (٧) وقد أطلق على أصحابها اسم "القدرية" ثم أخذ عن معبد الجهني عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء رأس المعتزلة (٨).


(١) ((الاعتصام للشاطبي)) (١/ ١٢٣).
(٢) ((الفتاوى)) (٥/ ٢٠).
(٣) ((عقائد السلف للنشار)) (٧).
(٤) ((عقائد السلف)) ((الرد على الجهمية)) (٦٥)، ((اللالكائي)) (٣/ ٣٧٩).
(٥) ((المعتزلة)) زهدي جار الله (٢٨).
(٦) ((اللالكائي)) (٣/ ٣٨٢) أثر (٦٤١).
(٧) ((البداية والنهاية)) (٩/ ٣٤).
(٨) ((المعتزلة)) زهدي جار الله (٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>