للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: بم يدرك حسن الأفعال وقبحها والثواب عليها والعقاب عند المعتزلة؟]

رأي المعتزلة في إدراك حسن الأفعال والثواب عليها، وقبحها والعقاب عليها، هل هو ثابت بالعقل أم بالشرع؟.إن الحسن والقبيح قد يعني بهما كون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين. وقد يراد بهما كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص، كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، ولا نزاع – أيضاً – في كونهما عقليين (١).إذا ما هو محل النزاع؟ يجيبنا على ذلك الرازي، فيقول: "وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلاً وعقابه آجلاً، وفي كون الفعل متعلق المدح عاجلاً، والثواب آجلاً، هل يثبت بالشرع أو بالعقل؟ ... " (٢).إن ظاهر قول المعتزلة في هذا هو أن العقل هو الحاكم بالحسن والقبح، والفعل حسن أو قبيح في نفسه؛ إما لذاته كما يقوله البغداديون، أو لصفة حقيقية توجب ذلك، كما يقوه بعضهم أو لوجوه واعتبارات هو عليها، كما يقوله القاضي ومعظم البصريين ... فالمعتزلة قد نسبوا إلى العقل الحكم والكشف (٣) ... فالعقل يعلم العلم الكامل بحسن الفعل وقبحه؛ ومن ثم يحكم عليه. يقول أبو الهذيل: "يجب على المكلف قبل ورود السمع ... أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة؛ استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور" (٤).ويقول النظام: "إن المكلف – قبل ورود السمع – إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال" (٥).وقال – أيضاً -: "بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله ... " (٦).ويقول القاضي عبدالجبار: "وكل عاقل يعلم بكمال عقله قبح كثير من الآلام كالظلم الصريح وغيره، وحسن كثير منها كذم المستحق للذم وما يجري مجراه" (٧).ويقول الغزالي: "ذهب المعتزلة إلى أن الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة، فمنها ما يدرك بضرورة العقل، كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق وقبح الكفران ... ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع، ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة وسائر العبادات، وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة، لكن العقل لا يستقل بدركه ... " (٨).

من هذه الأقوال؛ يظهر أن الأفعال عند المعتزلة قد ثبت قبحها والعقاب عليها عقلاً، كما ثبت حسنها والثواب عليها عقلاً ما عدا العبادات.

هذا هو موجز رأي المعتزلة في هذه المسألة.

ثانياً: المناقشة:

عرفنا – آنفاً – أن المعتزلة ترى أن قبح الأشياء وحسنها والعقاب عليها والثواب ثابت عقلاً، فهم يرون أن هناك تلازم بين إدراك قبحها، وبين العقاب عليها ...

ويقال لهم: إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، لكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحاً موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فمثلاً: الكذب والزنا: كلها قبيحة في ذاتها، لكن العقاب عليها مشروط بالشرع ...


(١) ((المحصول)) للرازي (١/ ١٥٩)، وانظر ((المستصفى)) للغزالي (١/ ٥٦).
(٢) ((المحصول)) للرازي (١/ ١٦٠).
(٣) نظرية ((التكليف: آراء القاضي عبدالجبار الكلامية)) (ص٤٣٧)، (ص٤٣٨).
(٤) ((الملل والنحل)) (١/ ٥٥).
(٥) ((الملل والنحل)) (١/ ٦٠).
(٦) ((الملل والنحل)) (١/ ٦٠).
(٧) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٤٨٤).
(٨) ((المستصفى)) للغزالي (١/ ٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>