للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: مفهوم العقل عند المعتزلة]

أما عند أصحابنا من علماء الكلام (وأعني بهم المعتزلة خاصة) فكيف تطورت أحوالهم حتى ضاهوا الشرع بعقولهم وجعلوه حاكماً على النصوص لا محكوماً لها؟ فأقول: (لما ظلمت الأرض وبعد عهد أهلها بنور الوحي وتفرقوا في الباطل فرقاً وأحزاباً لا يجمعهم جامع ولا يحصيهم إلا الذي خلقهم فإنهم فقدوا نور النبوة ورجعوا إلى مجرد العقول فكانوا كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه أنه قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) (١). فكان أهل العقول كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر أو الحيرة والشك أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به فاستفادوا بها مقت الرب سبحانه لهم وإعراضه عنهم فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلم سراجاً منيراً وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكوراً فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا بآرائهم يرونه فكانوا كما قال الله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: ٢٥٧] وقال: (آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: ٥٢] وقال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام: ١٢٢] فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ولم تلتبس به ظلم الآراء وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم وأن لا يخرجوا عن طريقتهم)) (٢).فكان من شأن الصحابة أنهم لم يقدموا عقولهم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بل كان دليل أحدهم إذا استدل إنما هو آية من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه لما سمع بمقالة ابن عباس رضي الله عنهما الأولى في الربا – قبل أن يرجع عنها – وهي حديث (إنما الربا في النسيئة) قال أبو سعيد له (أرأيت هذا الذي تقول شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟) (٣).


(١) رواه مسلم (٢٨٦٥) من حديث عياض بن جمار المجاشعي.
(٢) ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (٣/ ١٠٦٨).
(٣) رواه مسلم (١٥٩٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>