للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب]

ونبدأ ذلك ببيان موجز لما تعرض له عمل القلب من إعراض أو إسقاط أو خفاء لدى الأمة الإسلامية في عصور الانحراف، فنقول:

١ - المتكلمون:

وهؤلاء أهملوا أعمال القلوب بالكلية جاعلين الإيمان قضية عقلية بحتة، ولم يثبتوا من أعمال القلب سوى التصديق الخبرى الذى هو في الحقيقة أشبه بالعمل الذهنى الخالص - وإن نسبوه للقلب.

وأصل هذا المذهب هو ذلك المبتدع الضال " الجهم بن صفوان " (١) والمؤسف جدا أن أكثرية متكلمى الأمة - وهم الأشاعرية والماترية - اعتنقوا هذا المذهب مع إطباق أئمة السلف العاصرين لنشأته على تكفير جهم وأصحابة، واعتبار الجهمية فرقة خارجة عن فرق أهل القبلة الثلاث والسبعين (٢).

ومن أغرب التناقضات عند هؤلاء أن يكون مت نقله أبو الحسن الأشعرى نفسه في المقالات عن جهم والصالحى وبشر المريسى اليهودى هو ذات عقيدتهم التى صرح بها الباقلانى والجوينى وسائر أئمتهم إلى الإيجى ومن جاء بعده.

وليس هذا موضع المقارنة بين الجهمية والأشاعرية، وحسبنا إن ننقل مذهب جهم كما سطره الأشعرى نفسه، ثم نقارنه بكلام أكبر أئمة الأشاعرة المتقدمين وناشر مذهبهم (٣) - القاضى الباقلانى.

يقول الأشعري في أول حديثه عن فرق المرجئة واختلافهم: " فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وان ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما "كذا" والعمل بالجوارح فليس بإيمان قال: وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان " (٤).

ويقول الباقلاني - في بيان ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به - " وأن يعلم أن الإيمان بالله عز وجل هو التصديق بالقلب والدليل هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله عز وجل: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:١٧]

وقد أتفق أهل اللغة قبل نزول القران وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب " (٥).

فهذا اتفاق بينهما على أن أعمال القلب والجوارح غير داخله في الإيمان.

صحيح أن الجهمية تقول أن الإيمان المعرفة، والأشاعرية يقولون: الإيمان التصديق، ولكن ما تمحله الأشاعرة وتكلفوه من التفريق بين المعرفة وبين التصديق المجرد أمر لا يقبله العقلاء، ولهذا رد عليه شيخ الإسلام ابن تيميه قائلا: " إن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالى عن الانقياد - الذى يجعل قول القلب - أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد معرفة القلب وتصديقه، ويقولون، إن ما قاله ابن كلاب والأشعرى من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق."


(١) وقد أشار الإمام ابن جرير إلى فرقة أخرى تنكر عمل القلب، وبمراجعة فرق المرجئة فى ((المقالات)) وجدت أنها الغسانية، انظر: (ص ٢٨٤). وانظر ((تهذيب الآثار)) (٢/ ١٩٩) و ((المقالات)) (١/ ١٣٧)
(٢) [٤٣٦٨] انظر ((كتاب الايمان)) لأبي عبيد.
(٣) [٤٣٦٩] انظر ((تبيين كذب المفتري)).
(٤) [٤٣٧٠] ((مقالات الإسلاميين)) (١/ ١٣٠)
(٥) [٤٣٧١] ((الأنصاف))، (ص ٢٢)، وعن الرد على الأشاعرة فى هذا، انظر: ((الإيمان)) لابن تيميه مواضع كثيرة منها: (ص ١٤١ - ١٤٣)، و (ص ١٧٨ - ١٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>