يقول ابن رشد:(والقول بنفي الأسباب في الشاهد ليس له سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب، لأن الحكم على الغالب من ذلك إنما يكون من قبل الحكم بالشاهد فهؤلاء لا سبيل لهم إلى معرفة الله تعالى)
ولا يخفى أن أقوى الأدلة التي استدلت بها الأشعرية على وجود الله وإثبات صفاته هو قياس الغائب على الشاهد يقول الإيجي:(احتج الأشاعرة بوجوه، الأول: ما اعتمد عليه القدماء، وهو قياس الغائب على الشاهد، فإن العلة والحد والشرط لا يختلف غائبًا وشاهدًا). فقولهم: لعقيدة العادة يبطل عليهم أدلتهم في معرفة الله ويقول ابن القيم: ( .. ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد ناقصة لا يتم إلا بإنكار الأسباب).
فكيف إذا حكم على مثبت الأسباب بالكفر والضلال وهو موحد مؤمن!! ويقول ابن تيمية:( .. ومن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله بها المخلوقات ليست أسبابًا، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي، كاقتران الدليل بالمدلول فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها) بل يعتبر ابن القيم وغيره عقيدة العادة عند الأشاعرة داعية لإساءة الظن بالتوحيد، وتسليطًا لأعداء الرسل على ما جاءوا به (إن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق، والماء لا يغرق، والخبز لا يشبع، والسيف لا يقطع، ولا تأثير لشيء من ذلك البتة، ولا هو سبب لهذا الأثر، وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا بكذا وقالت: هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة الظن بالتوحيد، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاءوا به كما تراه عيانًا في كتبهم ينفرون به الناس عن الإيمان) وقد صدق ابن القيم فانظر إلى ما يقوله الدهريون الملحدون في زماننا في هذا النص الذي ينسبونه إلى الدين: (جميع الآراء الأخرى أو بالأحرى أي اتجاه فلسفي آخر، في مسألة السببية وإنكار القوانين الوضعية والسببية والضرورية في الطبيعة، تنتسب إلى الاتجاه الإيماني .. ذلك أن من الواضح حقًا أن الاتجاه الذاتي في مسألة السببية واستنباط نظام الطبيعة وقوانينها، ليس من العالم الموضوعي الخارجي، بل من الشعور والعقل والمنطق .. ).
مع العلم أن الدين الإسلامي لا يخاصم العلوم ولا يمنع من البحث في الطبيعة والتعرف على سنن الله فيها، فهل يستطيع أحد أن يقول: إن القرآن ينكر الجاذبية الأرضية مثلاً أو سائر قوانين السببية التي ما هي إلا آيات تدل على منتهى الحكمة والدقة والنظام ولهذا رد ابن سينا على الطبائعيين الذين ينكرون السبب الأول، ويجعلون الطبائع هي الأولى والآخرة في الإبداع والخلق والتأثير ( .. إن المواد للأجسام العالمية صنفان، صنف يختص بالتهيؤ لقبول صورة واحدة لا ضد لها، فيكون حدوثها على سبيل الإبداع لا على سبيل التكوين من شيء آخر وفقدها على سبيل الفناء لا سبيل الفساد إلى شيء آخر وإلى هذا يرجع قول الحكيم في كتبه إن السماء غير مكونة من شيء ولا فاسدة إلى شيء لأنها لا ضد لها لكن العامة من المتفلسفة صرفوا هذا القول إلى غير معناه فأمعنوا في الإلحاد والقول بقدم العالم فهذا صنف، وخصوه باسم الأثير، والصنف الثاني صنف مهيأ لقبول الصورة المتضادة فيتكون تارة هذا بالفعل وذلك بالقوة وتارة بالعكس وسموه العنصر فجعلوا الأجسام أثيرية وعنصرية).