[المبحث الأول: اتخاذ الشيخ]
أول ما يجب على مريد الطريق الصوفي أن يتخذ شيخاً له ليدله على الطريق. يقول عبدالكريم القشيري "ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان" (القشيرية ص١٨١)، وهذا النص قد كتبه سنة ٣٨٧هـ وهو يدلك على أن قضية وجوب اتخاذ الشيخ قضية قديمة، واتخاذ الشيخ قد تفسر بأن لها سنداً من الكتاب والسنة في أن الرسول علم أصحابه والأصحاب علموا التابعين وهكذا، ولكن هذا استدلال من لا يعلم ماذا يعني الشيخ في الطريق الصوفي! إن الشيخ يعني شيئا آخر تماماً كما ستأتي مواصفات الشيخ والشروط والآداب التي يجب مراعاتها معه.
والمهم هنا أن نعلم أن كون من لم يتخذ شيخاً لا يفلح أبداً ليس بصحيح فمن الممكن أن يهتدي المسلم بسماعه للقرآن وقراءته للحديث من شيخ أو طالب علم، أو كتاب ولا يشترط في الهداية الالتزام بشيخ معين بل لو سمع المسلم من عشرات الشيوخ لكان هذا أحكم له وأعلم وهكذا كان سلفنا الصالح يسمعون الحديث النبوي من أهله، والفقه من أهله، والقواعد العربية من أهلها، والتفسير من أهله وهكذا ..
وأما في الطريق الصوفي فيجب عليك أن تتخذ شيخاً واحداً لا تحيد عنه ولا تلتفت إلى غيره بل لا يجوز أيضاً طلب العلم من غير أهل التصوف مطلقاً.
يقول القشيري بعد أن قرر في زعمه أن طائفة التصوف هم أهل الحق وأن علومهم أشرف العلوم:
" .. فإذا كان أصول هذه الطائفة أصح الأصول ومشايخهم أكبر الناس وعلماؤهم أعلم الناس فالمريد الذي له إيمان بهم إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقصدهم فهو يساهمهم فيما خصوا به من مكاشفات الغيب فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة".
وقد قرر شيوخ التصوف من أهل الطرق الحديثة أن من ترك طريقتهم إلى طريقة غيرهم ابتلي بسوء الخاتمة. وهكذا فقد كان رجال التصوف قديماً يأمرون فقط بمجرد الانتساب والسلوك في الطريق الصوفي أياً كان الشيخ أو الطريقة، المهم أن يكون السالك (الموفق) حسب زعمهم سائراً في هذا الطريق غير ملتفت إلى غيره من مذاهب العلماء والفقهاء الذين يصفهم المتصوفة دائماً بأنهم علماء رسوم وطلاب دنيا، وتجار .. الخ الأوصاف التي يطلقونها على علماء الشريعة لتنفير الناس منهم. وانظر مثلاً إلى ما يقول القشيري في التنفير من سماع المريد إلى كلام غير كلام المتصوفة:
"ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين سوى طريقة الصوفية إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب والناس إما أصحاب النقل والأثر وإما أرباب العقل والفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف ومقصود فلهم من الحق سبحانه موجود فهم من أهل الوصال (أي مع الله في زعمه) والناس أهل الاستدلال وهم كما قال القائل:
ليلي بوجهك مشرق ... وظلامه في الناس ساري
فالناس في صدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار"
(القشيرية ص١٨٠).
وها أنت ترى هنا أنه يقسم علماء الإسلام إلى ثلاثة أقسام: علماء النقل والأثر، وهم حملة القرآن والحديث والسير وعمل الصحابة والقسم الثاني من سماهم بأرباب العقل والفكر ويعني بهم الفلاسفة والمتكلمين كالمعتزلة والأشاعرة ونحوهم والفريق الثالث المتصوفة ومدح هؤلاء ويقول إن حججهم أظهر وقواعدهم أقوى وأن ما هو غيب عند الآخرين هو شهادة عند المتصوفة يعني أن المتصوفة يشاهدون الله والجنة والنار عياناً ولا يحتاجون إلى الاستدلال بالقرآن والسنة كما هو شأن علماء الأثر، ولا بالأدلة العقلية كما هو حال علماء الكلام والمنطق والجدل. أقول: كان الشأن في أول التصوف هو إلحاق المريد بركب المتصوفة أياً كانوا وكيفما كانوا، ولكن في العصور الحديثة أصبح التصوف دولاً، وإمارات خاصة، وإقطاعات دينية مستقلة، فالطريقة تدر على أصحابها وأربابها أرباحاً وفيرة ولذلك فلا بد من الاستحواذ على المريدين، وإدخالهم في سلك الطريقة الخاصة وعدم السماح لواحد منهم بتاتاً أن ينفلت من القيد الذي يوضع في رجليه والمقود الذي يوضع في رأسه وإلا ارتد عن دينه وعوقب بسوء الخاتمة. فالشيخ في الطريقة الصوفية ليس هو بتاتاً ما يعنيه الكتاب والسنة من اتخاذ المرشد والهادي والداعي إلى الله، وإنما هو التزام أبدي بطريقة خاصة ورجل خاص يقدسه حياً وميتاً. فشتان بين اتخاذ شيخ وإمام في دين الإسلام الصحيح واتخاذ شيخ صوفي ليكون رائداً للطريقة.
المصدر:الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص ٣١٤ - ٣١٦