للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة يقول أبو منصور البغدادي (١):

"الطاعات عندنا أقسام: أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً، ويكون عاقبته لأجلها الجنة إن مات عليه، وهي: معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات، ومعرفة أركان شريعة الإسلام وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر.

والقسم الثاني: إظهار ما ذكرناه باللسان مرة واحدة، وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق، وبه تحل المناكحة، واستحلال الذبيحة، والموراثة، والدفن في مقابر المسلمين، والصلاة عليه وخلفه.

والقسم الثالث: إقامة الفرائض واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار ويصير مقبول الشهادة.

والقسم الرابع منها: زيادة النوافل، وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية ".

قال: " والمعاصي أيضا قسمان:

قسم منها: كفر محض؛ كعقد القلب على ما ضاد القسم الأول من أقسام الطاعات، أو الشك فيها أو بعضها، ومن مات على ذلك كان مخلدا في النار.

والقسم الثاني منها: ركوب الكبائر، أو ترك الفرائض من غير عذر، وذلك فسق تسقط به الشهادة، وفيه ما يوجب الحد أو القتل أو التعزير، وهو مع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات ".

فالطاعات عنده ثلاث مراتب:

١ - المعرفة ٢ - الإقرار ٣ - العمل.

والمعاصى مرتبتان:

١ - ترك المعرفة. ٢ - ترك العمل.

ولم يذكر ترك الإقرار لأنه مجرد علامة لإجراء الأحكام الدنيوية كما بين في كلامه، ولذلك كان إظهاره مرة واحدة كافياً.

فحقيقة الإيمان عنده هي المعرفة بأصول الدين معرفة قلبية، وحقيقة الكفر هي اعتقاد ضد تلك المعرفة بالقلب أيضا.

وأما الإقرار - وهو قول كلمة الشهادة -، والعمل - الذي هو فعل المأمورات وترك المنهيات - فليسا من الإيمان ولا يكون تاركها كافرا , فإن كان تاركا للإقرار كان مؤمنا عند الله فحسب، وإن كان تاركا للعمل كان مؤمنا عند الله وفي أحكام الدنيا أيضا! هذه خلاصة كلامه.

وهذا ظاهر الموافقة لمذهب جهم وبشر مع شيء من التفصيل، ولكن ليس هذا هو العجيب فإن اتباعهم لمذهب جهم مشهور معلوم، ولكن العجيب أن مذهبه فيه موافقة لمذهب الخوارج شعر أو لم يشعر , وذلك في قوله أن من اعتقد ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات عنده - وهو (معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات ومعرفة أركان شريعة الإسلام) - كافر ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

والذي أوقعه في ذلك هو القسمة العقلية التي لا مستند لها من النصوص، فهل يعتقد البغدادي أن من خالف الأشعرية في شيء من هذه العقائد أو جهلها كافر؟ الواقع أن الاختلاف عندهم في تكفير أهل البدع قائم، وهم مضطربون في ذلك بما لا متسع لتفصيله.

والأكثر مخالفة لمذهب السلف هو اعتقاد تكفير من جهل شيئا من أركان الشريعة بإطلاق؛ فإن الإنسان قد يجهل حكماً هو عند غيره معلوم قطعي ويكون مع ذلك معذوراً .. على تفصيل ليس هذا موضعه.

فالبغدادي - ولا ريب - قد جنح في مسألة المعرفة إلى الغلو لكنه سرعان ما تناقض فجنح في مسألة العمل إلى التفريط.

فمع حكمه بأن من فاتته معرفة أحكام الشريعة كافر - بلا تفصيل - تجده يحكم بأن من لم يعمل شيئا منها من غير عذر مؤمن إن كان صحيح المعرفة - كما قال - ومن هنا نفهم أن تلك المعرفة المشروطة إنما هي إدراك مجرد، فلا تستلزم لذاتها امتثالا ولا عملا. والمهم أن هذه " التوفيقية " الواضحة التي انتهجها البغدادي بما فيها من تناقض وتذبذب ظلت هي منهج القوم المتبع ولا تزال، - لا سيما في موضوع ترك العمل - والنصوص الآتية هنا توضح ذلك:


(١) أحد أئمة الأشعرية المتقدمين، وهو صاحب ((الفرق بين الفرق)) و ((أصول الدين)) توفى (٤٢١) هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>