للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: الاعتماد على العقل]

يبدو واضحاً لكل باحث مطلع على كتب الماتريدية الكلامية أنهم جعلوا معظم مباحث الإلهيات "عقلياتٍ" فجعلوا "السمع" تابعاً للعقل فيها، ومن هذه العقليات تلك الصفات الثمان التي يسمونها صفاتٍ عقلية ثبوتية، كما يسمونها (صفات المعاني) أيضاً. ويعتمدون في إثباتها على الحجج العقلية التي يرونها قطعية، أما النصوص الشريعة فيذكرونها للاعتضاد، لا للاعتماد (١).

فمصدر تلقي العقيدة في هذه الأبواب هو العقل عندهم والنقل تابع له أما مباحث المعاد فجعلوها سمعية وكذا مباحث النبوات، ويعبرون عن السمعيات بالشرعيات أيضاً. وعرفوا الشرعيات بأنها أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتاً ونفياً، ولا طريق للعقل إليها، وأما العقليات فهي ما ليس كذلك (٢).فمصدر العقيدة عندهم في هذه الأبواب هو النقل، والعقل تابع له (٣).وقد جعل بعضهم مباحث النبوات من قبيل العقليات (٤).فأنت ترى أنهم جعلوا العقل حاكماً فيما يسمونه "العقليات" وجعلوا النقل عاطلاً؛ أما ما يسمونه "السمعيات" فقد جعلوا النقل حاكماً فيه والعقل عاطلاً مع أن من مذهب أهل السنة أنه لا منافاة بين العقل السليم الصريح والنقل الصحيح أصلاً (٥)، فالنقل هو الذي يعتمد عليه، والعقل معاضد للنقل ومعاون له كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى، وليس أصلاً من أصول العقيدة يستقل فيه العقل أو يهدر فيه (٦).

ولهذا احتج الله تعالى على منكري المعاد بحجج عقلية قطعية في مواضع من كتابه؛ فدل هذا على أن العقل لا يهدر حتى في أمر المعاد بل العقل الصحيح يدل على المعاد أيضاً.

الحاصل: أن الماتريدية لما قسموا أصول الدين إلى "عقليات" و"سمعيات" بنوا على ذلك موقفهم الفاسد من النقل في باب ما يسمونه "العقليات" فأي نقل خالف عقولهم في "العقليات" إن كان من أخبار الآحاد ردوه، أو أوّلوه؛ وإن كان من المتواترات حرفوه بشتى التأويلات الفاسدة، وأما ما يتعلق بالمعاد فلا يؤولونه.

يقول متكلم الماتريدية الهندية، الشيخ عبدالعزيز الفريهاري في صدد إثبات نعيم القبر وعذابه، وسؤال منكر ونكير:


(١) ((منهاج السنة)) الطبعة المحققة (٧/ ٣٧)، و ((شرح الطحاوية)) (ص ٢٣٧).
(٢) ((شرح المواقف)) (٢/ ٣٠٩).
(٣) راجع على سبيل المثال ((العقائد النسفية)) مع شرحها للتفتازاني فمن أول الكتاب إلى (ص ٩٨)، عقليات ثم بعدها سمعيات، و ((شرح المواقف)) من أوله إلى (٨/ ٢١٧) عقليات ثم الموقف السادس في السمعيات، والمسايرة مع شرحها لقاسم بن قطلوبغا من أول الكتاب إلى (٢٤٩)، عقليات ثم الركن الرابع في السمعيات، و ((شرح الإحياء)) إلى (٢/ ٢١٣)، عقليات ثم سمعيات، وانظر أيضاً ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص ١٦٨ - ١٦٩).
(٤) انظر ((المسايرة مع شرحها)) لقاسم بن قطلوبغا (ص ٢١٦ - ٢٤٢).
(٥) وكتاب: ((درء التعارض)) نسيج وحده في هذا الباب، وانظر ((إعلام الموقعين)) (٢/ ٣ - ٦٢، ٧١ - ١٣٤)، ففيها شفاء للمرضى بداء المعارضة بين النقل والعقل.
(٦) راجع ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) للدكتور سفر الحوالي (ص ٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>