للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: دولة الإباضية في المغرب]

انتشر المذهب الإباضي في المغرب على يد دعاة مخلصين وجدوا من البربر آذانا صاغية، فاستغلوا ذلك لنشر مذهبهم الذي طورد في المشرق القريب من عاصمة الخلافة الإسلامية فقد رأوا أنه حفاظا على بقاء مذهبهم وإقامة سلطة باسمه لابد وأن تكون بعيدة عن بطش الخلافة، فاختاروا المغرب بين قبائل البربر فقام للخوارج في المغرب مذهبان مذهب الإباضية ومذهب الصفرية، وكان مما ساعدهما في الانتعاش شيئا فشيئا اعتدال دعوتهم التي تهادن الحكام تحت ستار التقية وتعامل المخالفين بقدر من التسامح إلى أن بلغوا ما أرادوا، ولولا هذا الاعتدال لكان مصيرهم لا يقل عن مصير أولئك الذين قلما يجتمع لهم أقل عدد إلا وأعلنوها ثورة وعصيانا مسلحا فتنقض عليهم جيوش الخلافة حتى يبادوا، وقد أبيدوا بالفعل وما نشأت خوارج المغرب إلا نتيجة من نتائج تلك الإبادة في المشرق.

لقد كانت البصرة إحدى القواعد الأساسية لدعاة المذهب الإباضي، ومنها انطلق دعاة الإباضية الذين انتشروا في المغرب لتأسيس دولتهم هناك. وكان زعماء هذه القاعدة هم أوائل علماء المذهب وعلى رأسهم أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة.

فكان الدعاة ينتشرون منها إلى الأماكن المعينة، بل وكان الخارجون على الخلافة لا يخرجون إلا بعد استشارتهم كما كان الحال في خروج طالب الحق في جزيرة العرب وأبو الخطاب (أحد حملة العلم) كما يسميهم الإباضية في المغرب، ثم خلفه عبد الرحمن الرستمي ومن جاء بعده من أولاده فكانوا لا يبرمون أمرا ذا بال إلا عن مشورة علماء المذهب في البصرة. وقد رزق مذهب الإباضية في المغرب أنصارا مخلصين في إقامته وإعلانه أمثال سلمة بن سعد الذي " كان يقول في مبدأ أمره: " وددت أن يظهر هذا الأمر يوما واحدا فما أبالي أن تضرب عنقي " (١). وابن مغطير الجناوني، وغيرهما من الرجال الذين كانوا يذهبون من المغرب إلى البصرة ثم يرجعون بعد أن يتزودوا بالعلم والفقه في المذهب دعاة ومجاهدين وقضاة في دولتهم الناشئة.

وقد انتقل مع المذهب الإباضي إلى المغرب مذهب الصفرية – كما قلنا – وانتشر هناك على يد عكرمة مولى ابن عباس وهو بربري في الأصل ولهذا كان لدعوته إلى المذهب الصفري تأثير بين البربر لمعرفته بدخائل نفوسهم، وكان يدعو إلى مذهبه سرا ثم أخذ في الانتشار إلى أن صار مذهبا قويا فيما بعد، خصوصا وقد كان المهاجرون من المشرق الذين هربوا من اضطهاد الخلفاء يرتادون المغرب لبث دعوتهم في هذه المناطق النائية عن الخلافة الإسلامية، ولم يحدد المؤرخون بالضبط متى بدأ المذهب الخارجي ينتشر هناك. يقول الدكتور رفعت فوزي عن تحديد نشأة الإباضية والصفرية بالمغرب: " وإذا كانت الروايات التاريخية لا تبين لنا بالتحديد متى قدم إلى المغرب أول من دعوا إلى مذهب الخوارج وهما سلامة بن سعيد وعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما؛ فإنه يمكن القول بأنهما قدما في أواخر القرن الأول أو أوائل القرن الثاني" (٢).

ويجب أن نلاحظ هنا أن تلك القبائل التي كانت محط الأنظار لنشر المذهب الخارجي بينهم كانت متأرجحة بين اعتناق المذهب الخارجي والبعد عنه، وأغلبهم كان يميل مع القوي صاحب الغلبة، فإذا جاء من هو أقوى منه كان الحال معه كسابقه وهكذا.

لقد كان البربر منذ أسلموا مخلصين في إسلامهم يشتركون في جميع المعارك التي يخوضها الجيش الإسلامي، وكانوا عندما يعاملون بالعدل والرفق كما وصفهم الطبري: " من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك أحسن أمة سلاما وطاعة ".


(١) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (٢/ ٢٥).
(٢) ((الخلافة والخوارج في المغرب العربي)) (ص٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>