للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: نشأة فرق الخوارج وأسبابها]

بدأ تكون فرق الخوارج – كما قلنا سابقا – بظهور نافع بن الأزرق وجماعته التي تنتسب إليه والتي عرفت باسم الأزارقة وذلك في أوائل الستينات، وتتابع بعد ذلك ظهور تلك الفرق سواء الفرق الكبرى أو ما تشعب عنها من فرق صغرى.

ولقد كان لهذا الافتراق أسبابه الظاهرة والخفية وإن لم تكن في أغلب الأحيان أسبابا لها قيمتها، فقد عرفنا عنهم أنهم كانوا يختلفون ويفترقون لأتفه الأسباب، ومهما يكن من أمر فإلى جانب اختلافهم حول سلوك بعضهم على هذا النحو أو ذاك كانت هناك أسباب لهذا الاختلاف ترجع إلى اختلافهم في الآراء الدينية وفي مواقفهم من الجماعة الإسلامية.

فقد كان الخوارج في مبدأ أمرهم لا يعرفون تلك التفاصيل في مذهبهم التي أحدثت بينهم الخلافات فيما بعد وفرقتهم فرقا متعددة ذات آراء مختلفة، كالاختلاف في القعدة والتقية والهجرة من دار مخاليفهم إلى دارهم، كذلك حكم أطفال مخالفيهم هل هو تابع لحكم آبائهم أم يختصون بحكم مستقل مع الاختلاف في حكم هؤلاء الآباء المخالفين. . الخ.

وقد أثرت فيهم هذه الاختلافات في الآراء حين حدثت فتعددت طوائفهم، واختلفت بتعدد هذه الآراء واختلافهم. وقد اختلف العلماء في الشخصية التي أحدثت هذه الخلافات بين صفوف الخوارج وفرقت كلمتهم وجعلت بعضهم يبرأ من بعض؛ فقيل إن أول من أحدث الخلاف بين الخوارج هو نافع الأزرق الحنفي، وقيل إن أول من أحدثها عبد ربه الكبير أو رجل يسمى عبد الله بن الوضين، وأن نافعا كان من المخالفين له في مبدأ أمره ولكنه بعد وفاته تبين له أن الحق كان معه فرجع إلى الأخذ بقوله وأكفر من يخالفه بعد ذلك. وأما من خالفه قبل ذلك – أي قبل أن يرى نافع أن قوله صحيح – فليس بكافر وكأن الحكم يبتدئ عنده من يوم أن تبين له صحة رأي ابن الوضين، وقيل إن أول من أحدثها عبد ربه الصغير (١).

والحقيقة كما يظهر لي أن خلاف الخوارج لم يشتد ولم يأخذ شكله الحاد إلا حين تبنى نافع بن الأزرق آراءه الخاصة في تلك المسائل التي لم يعرفها سلف الخوارج ولم يخوضوا فيها بالتفصيل، وحينما أخذ نافع في تطبيقها اعتبرها الخوارج آراء متطرفة لم يقل بها سلفهم من أهل النهروان ولا غيرهم؛ فمثلا حرم التقية واعتبرها خشية من غير الله لا تجوز بحال مستدلا بقوله تعالى: إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: ٧٧].

وعلى هذا فإن القعدة الذين يستندون إلى التقية غير مؤمنين في نظره، واعتبر كل مخالفيه مشركين كفرة لا تحل مناكحتهم ولا موارثتهم ولا أكل ذبائحهم ولا يجب رد أماناتهم إليهم. ويحل أيضا قتل نسائهم وأطفالهم كما قال تعالى: وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:٢٧]. وعندما وصل إلى هذا الحد انفصلت عنه النجدات بقيادة نجدة بن عامر؛ لأنهم رأوا أن هذه الآراء مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وسلفهم القديم قائلين له: " أحدثت ما لم يكن عمله السلف من أهل النهروان وأهل القبلة "، فأجابهم بأن هذه حجة عرفها وقامت عليه وينبغي الأخذ بها (٢). قال عبد الرحمن النجم: " إن الآراء الشديدة الغاية التي تبناها نافع بن الأزرق وضعت الخوارج في بداية مرحلة خطيرة، فقد فتحت مجالا واسعا أمام مجتهديهم لمناقشات نظرية واسعة استمرت فترة من الزمن وأدت إلى ظهور آراء متباينة ومواقف مختلفة وكانت سببا في تفرقهم، ولا ريب أن الاتجاه المعتدل الذي يمثله النجدات هو أقرب إلى آراء عامة المسلمين " (٣).وابن عبد ربه يرى أن الخوارج قبل وجود نافع بن الأزرق كانوا لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ حتى جاء نافع فأوجد فجوات ينهم؛ يقول ابن عبد ربه: " الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي وكانوا قبل على رأي واحد لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ " (٤).

ومهما يكن من اختلاف العلماء حول تحديد أول من أحدث الافتراق بين الخوارج فقد كان لهذه الاختلافات أثرها السيء على مجرى حياتهم؛ إذ أخذ كل فريق منهم يشنع على مخالفيه قوله كما سيتبين لنا ذلك فيما بعد.

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص١٩٠


(١) انظر: ((مقالات الأشعري)) (١/ ١٧٠)، ((الفرق بين الفرق)) (ص٨٤).
(٢) ((مقالات الأشعري)) (١/ ١٧٠)، ((الفرق بين الفرق)) (ص٨٤).
(٣) ((البحرين في صدر الإسلام)) (ص١٢٨).
(٤) ((العقد الفريد)) (٢/ ٣٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>