للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الثاني: سلامة الصحابة رضي الله عنهم من الفرقة لقد اختار الله عز وجل الصحابة رضي الله عنهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتبليغ دينه إلى الناس كافة، وما ذاك إلا لما علم ما في قلوبهم من محبة الحق، والعمل على نصرته، والاجتماع عليه، وبذل الأموال والأنفس في سبيل ذلك، يقول الحسن البصري رحمه الله واصفا الصحابة: "أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه وإقامة دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (١).وقد تقدم معنا شيئا عن فضل الصحابة وعن فقههم، ولعله بان لنا موقفهم من الفرقة من خلال الفصول السابقة، وكيف أنهم ذموها وعابوها، فهم أعرف الناس بخطرها وضررها، وكانوا كذلك أبعد الناس عنها وأسلمهم منها، ولا يعني ذلك أنهم رضي الله عنهم لم يختلفوا؛ بل اختلفوا ولكنهم لم يفترقوا، وهذا شأن أهل الرحمة الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: ١١٨ - ١١٩]، فهم يختلفون اختلافا لا يضرهم (٢).يقول ابن تيمية رحمه الله: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: ٥٩]. وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين" (٣).ويقول الإمام إسماعيل الأصبهاني رحمه الله: "فإنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في أحكام الدين فلم يفترقوا، ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم، فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة ... وكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام ولم ينقطع منهم نظام الألفة (٤).

هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم متآلفين، مجتمعين، بعيدين عن أهل الفرقة وعن مناهجهم، وهناك نماذج ودلائل عدة على ذلك منها:

أولا: ما تقدم من أقوالهم العديدة في أمرهم المسلمين بالجماعة، ونهيهم عن الفرقة، وتحذيرهم من مغبة عواقبها

يقول ابن عباس رضي الله عنه لسماك الحنفي: "يا حنفي الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: ١٠٣]

ويقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة".ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه محذرا الأمة: "إياكم والفرقة بعدي". أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه والذي يسير على نفس المنهج يقول: "الاختلاف حالقة الدين وفساد ذات البين، وإياكم والخصومات فإنها تحبط الأعمال، والاختلاف يدعو إلى الفتنة، والفتنة تدعو إلى النار، وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: ٤٦] (٥).


(١) انظر كتاب ((الشريعة)) للآجري (٤/ ١٦٨٦).
(٢) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (ص٤٤٢).
(٣) ((الفتاوى)) (٤٢/ ٩٥).
(٤) الحجة في بيان المحجة (ص٢٤١) باختصار، وانظر عامه فهو كلام مفيد.
(٥) ((ذم الكلام)) للهروي (٤/ ٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>