[المبحث السادس: الفرق بين تصديق الأشاعرة ومعرفة جهم]
شيخ الإسلام ينسب إلى جهم أن الإيمان هو المعرفة، أو التصديق، ويقرر أن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد التصديق الخالي من الانقياد، أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه. كما أنه نسب إلى الأشعري في أحد قوليه، وإلى أكثر أصحابه أنهم نصروا قول جهم في الإيمان، وسمى من هؤلاء: الباقلاني، والجويني، والرازي. لكن هل ينطبق هذا على متأخري الأشاعرة؟ وهل يثبتون تصديقا مجردا من أعمال القلوب؟ والحق أن الناظر في كتب هؤلاء المتأخرين يتبين له أنهم لا يثبتون تصديقا مجردا عن أعمال القلوب، بل يدخلون في التصديق: الإذعان والانقياد والقبول والرضى، ويفرقون بينه وبين المعرفة التي أثبتها جهم، كما أنهم يقررون كفر كثير من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعرفون الحق ولا ينقادون له. ومن أقوالهم في تعريف التصديق: قال في (إتحاف المريد): (وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة ... والمراد من تصديقه صلى الله عليه وسلم: قبول ما جاء به مع الرضا بترك التكبر والعناد، وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له، حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه، بحيث صار يطلق عليه اسم التسليم كما هو مدلوله الوضعي).وقال البيجوري:(والمراد بتصديق النبي في ذلك: الإذعان لما جاء به والقبول له، وليس المراد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم، مصداق ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:١٤٦] قال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد أشد).وقال الدردير في شرحه على (الخريدة): (والمراد من تصديقه عليه الصلاة والسلام: الإذعان والقبول لما جاء به بحيث يقع عليه اسم التسليم من غير تكبر وعناد، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به؛ لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه بحيث يطلق عليه اسم التسليم. وعلى هذا فالإيمان الشرعي هو حديث النفس التابع للمعرفة، أي الإدراك الجازم، بناء على الصحيح من أن إيمان المقلد صحيح. فالإذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن شيء واحد، وهو حديث النفس المذكور، فيكون الإيمان فعلا من أفعال النفس، وليس من قبيل العلوم والمعارف، ويظهر من كلام بعضهم أنه الراجح) ثم ذكر ما ذهب إليه التفتازاني وكثير من المحققين من أن التصديق هو نفس الإدراك، فيكون من قبيل العلوم والمعارف. وفي (حاشية السيالكوتي على شرح المواقف)، بعد أن ذكر أن التصديق كسبي اختياري، قال: (والإيمان الشرعي يجب أن يكون من الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ادعى النبوة وأظهر المعجزة فوقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب إليه اختيار، لا يقال في اللغة: إنه صدقه، فلا يكون إيمانا شرعيا، كذا في شرح المقاصد. وفيه بحث، فإن من حصل له تصديق بلا اختيار إذا التزم العمل بموجبه يكون إيمانا اتفاقا، ولو صدق النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر في معجزاته اختيارا، ولم يلتزم عمل بموجبه، بل عانده فهو كافر اتفاقا.