للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسلك الأول: مسلك التفويض: ويعنون بذلك: تفويض المعنى المراد من النص الموهم للتشبيه - على حد زعمهم - وهذا التفويض إنما يكون بعد التأويل الإجمالي - وهو: "صرف اللفظ عن ظاهره" (١) ويدل لذلك قول صاحب الجوهرة: "ورم تنزيها" بأن تعتقد أن ظاهره غير مراد، ثم تكف عن بيان المعنى المراد، قالوا: وهذه هي طريقة السلف وهي أسلم. ولهم حجتان في ذلك (٢):

الأولى: قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: ٧] على قراءة الوقف على اسم الجلالة. الثانية: اتفاق السلف على أنها تمر كما جاءت كما في قول الإمام مالك رحمه الله: "الاستواء معلوم والكيف مجهول ... " وكقول بقية السلف: أمروها كما جاءت (٣).

المناقشة: هذا المسلك مبني على أمرين:

الأول: دعوى أن الاتفاق حاصل على عدم إرادة الظاهر، إذ الظاهر يوهم التشبيه!

الثاني: آية آل عمران دالة على صحة التفويض - وهو الإمساك عن المعنى المراد.

والإجابة عن الأمر الأول:

الأولى: لا نسلم أن ظاهر آيات وأحاديث الصفات يفيد التشبيه، بل هي تدل على إثبات الصفات على الوجه اللائق بالله تعالى، ويتبين ذلك بالآتي: إن الأشاعرة قد سلموا أن الله تعالى حي بحياة وعليم بعلم وقدير بقدرة ... إلى بقية صفات المعاني السبع، وقالوا: إن ظاهرها على ما يليق بالله تعالى فيقال لهم: ويلزمكم كذلك طرد هذه القاعدة في بقية الصفات كالاستواء والعلو والوجه واليدين والغضب وغيرها، فهي ثابتة لله حقاً، على الوجه اللائق بالله وليس ظاهرها كما هي ثابتة عند البشر (٤).

الثانية: إن القول بأن نصوص الصفات ظاهرها غير مراد يلزم منه لوازم باطلة وهي:١ - أن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - قد تكلم بالباطل، ولم يأت نص واضح جلي يفيد غير ما ذكر في الكتاب والسنة (٥).٢ - إنه يكون قائل هذه المقالة قد مثل أولاً، إذ هو قد اعتقد أن ظاهرها التمثيل والتشبيه، ثم عمد إلى النص فعطله عن دلالته على الحق وعطل الصفة الثابتة في نفس الأمر لله تعالى (٦).

الثالثة: إن القول بتفويض المعنى ثم الزعم بأن ظاهر النصوص غير مراد تناقض واضح - فلا يعقل الادعاء بأن المعنى مما لا يعلمه إلا الله! مع الزعم بأن الظاهر غير مراد - إذ الذي لا يعلمه إلا الله لا يكون ظاهراً لنا.

الرابعة: ثم الجواب عما تمسكوا به قد تبين بطلانه على ضوء ما تقدم في مبحث أهل السنة والجماعة. ويظهر الجواب اختصاراً بالآتي:

١ - إن الأئمة مع قولهم أمروها كما جاءت، صرحوا بأن ظواهر النصوص مرادة مع قطع الطمع عن إدراك الكيفية، وهذا يتعارض مع زعم الأشاعرة بأن الظاهر غير مراد. وكل ما ذكر من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام يرد هذا الزعم.

٢ - إنا قد بينا سابقاً أن مراد السلف بقولهم (أمروها كما جاءت بلا تفسير) يراد به أحد معنيين:

الأول: أمروها بلا تفسير مبتدع وهو تفسير الجهمية.

الثاني: أمروها بلا تفسير للكيفية - وهو قول الإمام مالك نفسه: (والكيف مجهول).

وأما الاستدلال بالآية فخطأ بين - ويتضح ذلك بالآتي:


(١) ((جوهرة التوحيد مع شرحها)) (ص: ٩١).
(٢) انظر: ((الحجتين في تحفة المريد)) (٩١ - ٩٢).
(٣) قول مالك في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (٣/ ٣٩٨ - رقم ٦٦٤) وهو كذلك عند البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: ٤٠٨) قال ابن حجر "وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبدالله بن وهب قال كنا عند مالك ... " الخ ((فتح الباري)) (١٣/ ٤١٧).
(٤) انظر: ((التدمرية)) (ص: ٧٧ - ٧٨).
(٥) انظر: ((التدمرية)) (ص: ٧٩).
(٦) انظر: ((التدمرية)) (ص: ٨٠). وانظر (ص: ٦٧١) كلام الرازي الدال على استلزام التعطيل للتمثيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>