للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول: إن المراد بالتأويل على قراءة الوقف: معرفة الحقيقة التي يؤول إليها الخبر كما قد بين سابقاً - إذ الوقف التام يفيد أن ذلك مما لا يعلمه إلا الله، لأن حقائق الصفات وكيفيتها مما لا يظهر للخلق - أما على قول الأشاعرة فإنه لا تظهر فائدة من الوقف، إذ هم زعموا أن لها ظاهراً يعلمه البشر ولكنه غير مراد - وإنما المراد شيء آخر!، فشرعوا في تعيينه ظناً، وهذا ينافي التسليم التام الذي وصف الله به المؤمنين في الآية نفسها وهو قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: ٧].الثاني: لو سلم لهم قولهم هذا للزم طرده في كل نصوص الصفات الدالة على صفات المعاني وغيرها - إذ لا موجب للتفريق إلا التحكم، فما كان جواباً لهم عن نصوص صفات المعاني فليجيبوا به عن نصوص بقية الصفات (١).الثالث: القول بأن التأويل هنا المراد به حقائق الأشياء قول لا يعارض قول من لم ير الوقف على اسم الجلالة - إذ التأويل يكون على الثاني بمعنى التفسير الذي هو شرح الكلمات والألفاظ - ومن المعلوم أن الشيء قد يعلم معناه العام ولكن لا تعلم حقيقته وكنهه كما في نعيم الجنة، فالجمع بين أقوال السلف في معنى الآية أقوى من القول بتعارضها كما هو مقرر (٢).الرابع: إن الأشاعرة لهم مذهبان: ويدعون صحتهما - وهما التأويل والتفويض - فلو كانت الآية دالة على تفويض المعنى والكيفية مطلقاً لما كانت حاجة للقول بالتأويل، والعجب أنهم قد احتجوا بالآية نفسها على جواز التأويل باعتبار قراءة الوصل، فلو أرادوا الجمع الصحيح كان عليهم أن يقولوا إن لها معاني صحيحة إلا أن حقائقها غير معلومة لنا، أما القول بأن لها معنى أو لبعضها معنى ثم الزعم بأنه لا يعرف لها معنى فتناقض واضح (٣) ولكنهم يخرجون عن هذا بأن الظاهر المنفي هو ما ثبت للمخلوقين - وهنا لا يسلم لهم ذلك، وتلزمهم اللوازم السابقة، ويلزم منه التلبيس في المراد بالظاهر. والأشاعرة عندهم نوع من التفويض أطلقوه بمعناه الصحيح - وهو تفويض حقيقة الصفات وكنهها - إلا أن هذا التفويض مجاله صفات المعاني السبع فقط - فمن ذلك أن الباجوري لما أخذ يبين الفرق بين كل صفة من صفات المعاني قال: "والمدلول لغة لكل واحدة غير المدلول للأخرى، فوجب حمل ما ورد على ظاهره حتى يثبت خلافه ... وإذا ثبت أنها متغايرة لغة كانت متغايرة شرعاً، وبالجملة: فكنه كل واحدة غير كنه الأخرى ونفوض علم ذلك لله تعالى" (٤) اهـ.

وهذا النوع من التفويض محل إجماع بينهم، لا خلاف بينهم فيه كسابقه عندهم.

ولو أن الأشاعرة سلكوا هذا النوع الثاني من التفويض لكان أسلم وأعلم وأحكم لهم - إلا أنهم تناقضوا تناقضاً بيناً فادعوا أن صفات المعاني السبع ثابتة حقيقة لله، وأن النصوص الدالة عليها معلومة علماً صحيحاً من حيث المعنى والمفهوم إلا أن حقائقها غير معلومة - ثم ادعوا في بقية النصوص الدالة على غير هذه الصفات أنها دالة على معنى غير صحيح ظاهراً - فيجب صرفها - وأن تحديد المراد منها غير معلوم!!، وهذا تناقض ظاهر.

المصدر:منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - ٢/ ٥٩٦

اهتم شيخ الإسلام ابن تيمية ببيان الحق في هذه المسألة (مسألة التفويض)، وذكر فيما ذكر - في مناسبات مختلفة - مجمل حجج الذين زعموا أن مذهبهم هو التفويض، وأهمها:


(١) انظر: ((الرسالة التدمرية)) (ص: ٨٠).
(٢) انظر: ((رسالة معرفة المحكم والمتشابة)) (ص: ١٠٢).
(٣) انظر: ((التدمرية)) (ص: ١١٤ - ١١٥).
(٤) ((تحفة المريد)) (ص: ٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>