[المطلب الثالث: ذكر شبه المعتزلة في القول بخلق القرآن ونقضها]
الشبهة الأولى:
القرآن شيء، وقد قال الله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: ١٦] ولفظ "كل" للعموم، القرآن داخل في عموم ما خلق الله من الأشياء.
جوابها:
لا أحسب أن فساد هذا القول خاف على من قال به، ولكنهم أرادوا إدخال الريب والشك على من لا يفهم، وذلك أن صيغة "كل" وما يشبهها من صيغ العموم، عموم كل منها إنما هو بحسبه، قال تعالى في ريح عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: ٢٥] فالتدمير إنما كان بأمره تعالى، وأمره تعالى كلامه، قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: ٢٥] فالتدمير إنما كان بأمره تعالى، وأمره تعالى كلامه، قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: ٢٥] فأبان أن مساكنهم لم تدمر، ومقتضى ذلك أنها لم تدمر الأرض ولا الجبال ولا غير ذلك من سوى أهلها، فدل ذلك على أن عموم "كل" إنما كان في حق الكفار المستحقين للوعيد، لا كل شيء حتى من سواهم من الجماد وغيره، وهذا معقول ظاهر.
وقال تعالى في حق بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [النمل: ٢٣] ومعلوم أنها لم تؤت ملك سليمان، ولا غير أرضها من الأرض.
ولقد أثبت تعالى أن له نفساً، قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: ١١٦] وقال: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: ٤١] وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء: ٣٥] فهل يدخل الجهمي نفس الله تعالى في هذا العموم؟ إن الأنفس التي تموت إنما هي الأنفس المخلوقة، أما الخالق تعالى بصفته فهو حي لا يموت.
فدلت هذه النصوص على أن عموم "كل" إنما هو بحسب الموضع الذي وردت فيه.
فكذلك قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: ٦٢].
فالله تعالى شيء، وصفته شيء، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ [الأنعام: ١٩] والمخلوق شيء، والله هو الخالق، وليس بمخلوق، وصفاته تابعة لذاته، فليست بمخلوقة، والقرآن كلامه، وكلامه صفته، وصفته غير مخلوقه، فالله شيء غير مخلوق، وصفته شيء غير مخلوق، والمخلوق من وقع عليه فعل الخلق، وهو كل شيء سوى الله تعالى وصفته.
ولكن الجهمية المعتزلة أوقعهم في ذلك اعتقادهم أن الله تعالى لا تقوم به الصفات، فصفاته عندهم غيره، ونحن قد قررنا في الباب الأول أن الصفة إنما تقوم بالموصوف، والكلام إنما يقوم بالمتكلم، ولا تعقل ذات مجردة عن الصفات، وهذا من الجهمية المعتزلة هو التعطيل لصفات الخالق تعالى, لأن الصفة إذا قامت بمحل كانت صفة لذلك المحل، فباعتقادهم تبطل جميع الصفات.
وسبحان من شاء أن يظهر مخبوءهم ويكشف مستورهم، فإنهم أدخلوا صفة الله تعالى في عموم "كل" في هذه الآية، وأخرجوا أفعال العباد من هذا العموم، وقالوا: أفعال العباد غير مخلوقه لله، فكذبوا القرآن، من حيث أن الله تعالى قال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦] وقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فكذبوا على الله رب العالمين، وألحدوا في آياته، فصرفوا الآية عما هي له، واحتجوا بها على ما ليست له.
الشبهة الثانية:
القرآن مجعول، قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣] والجعل: الخلق.
جوابها:
لفظ "جعل" يأتي بمعنى "خلق" وبغيره.
والقاعدة فيه: أنه لا يأتي بمعنى "خلق" إلا إذا تعدى إلى مفعول واحد.