... الفرق التي ظهرت في تاريخ الإسلام، ولها عقائد خاصة بها، لم تظهر كتبها إلا بعد استقرار عقائدها، ووضوحها لدى معتنقيها. وهذا أمر بدِهى، أن الكتب إنما توضع لتأييد هذه العقائد، والدعوة لها، فلابد أن تسبق العقائد هذه الكتب.
بل إن هناك مرحلة تلي العقائد وتسبق الكتب، وهي وضع الأخبار وتناقلها والاحتجاج بها قبل أن تجمع في كتاب، وقبل أن يوضع كتاب مرة واحدة.
فبالنسبة للشيعة مثلا وجدنا بعد موت كل إمام حدوث تفرق جديد، فكانت كل فرقة تحتج بأخبار تؤيد ما انتهت إليه في تلك المرحلة، إلى أن تصل إلى الإمام الأخير الذي تستقر عنده آراؤها، وما كانت أي فرقة لتضع أخباراً في إمام إلا بعد ولادته، لأنها لا تعلم الغيب في واقع الأمر، وإن زعم منها من زعم أنه يعلم مثل هذا العلم.
وللبيان أثبت بعض ما جاء في كتاب من كتب الشيعة أنفسهم، وهو كتاب (فرق الشيعة) للحسن بن موسى النوبختي، وسعد بن عبدالله القمي، والاثنان عاشا في القرن الثالث، وأدركا بداية القرن الرابع.
يبين الكتاب تفرق الشيعة بعد موت الإمام جعفر الصادق، ومما جاء فيه: لما توفي أبو عبدالله بن محمد، افترقت بعده شيعته ست فرق وكانت وفاته بالمدينة في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة، وهو ابن خمس وستين سنة، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين، ودفن في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده في البقيع، وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة إلا شهرين، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر بن قحافة.
ففرقة منها قالت: إن جعفر بن محمد حي لم يمت، ولا يموت حتى يظهر ويلي أمر الناس، وهو القائم المهدي، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوا فإنني أنا صاحبكم، وأنه قال لهم: إن جاءكم من يخبركم عني أنه مرضني وغسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه، فإني صاحبكم، صاحب السيف، وهذه الفرقة تسمى الناووسية، وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس.
وفرقة زعمت: أن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف فغيبه عنهم، وزعموا: أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض، ويقوم بأمور الناس، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده، وقلدهم ذلك له، وأخبرهم أنه صاحبهم والإمام لا يقول إلا الحق، فلما أظهر موته علمنا أنه قد صدق، وأنه القائم لم يمت. وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة. وأم إسماعيل وعبدالله ابني جعفر بن محمد هي فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وأمها أسماء بنت عقيل بن أبي طالب.
وفرقة ثالثة زعمت: أن الإمام بعد جعفر هو ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأمه أم ولد، وقالوا: إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه، فلما توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل، وكان الحق له، ولا يجوز غير ذلك, لأن الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين، ولا تكون إلا في الأعقاب، ولم يكن لأخوى إسماعيل عبدالله وموسى في الإمامة حق، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية فيها حق مع علي بن الحسين. وأصحاب هذه المقالة يسمون المباركية، برئيس لهم كان يسمى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر.