من الأمور المسلمة لدى الأشاعرة وغيرهم أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة من مسائل العقيدة، وكل علم من أعلامهم حوت مؤلفاته ورسائله آراء توصل إليها إما باجتهاده أو تقليدا لأحد أعلام عصره أو مدرسته ممن تلقى على يديه العلوم والمعارف، فأصبح ذا منهج مستقل، ثم قد يرجع عن بعض أقواله في مؤلف أومؤلفات أخرى فتكثر الأقوال وتتعدد المناهج.
ويعتبر الأشاعرة مثل هذا الاختلاف أو التعدد في الأقوال اجتهادا داخل المذهب لا يؤثر عليه، ويجددون التفسير المناسب لمثل ذلك، فيقولون مثلا في بعض الصفات الخبرية، قال قدماء أصحابنا أو شيوخنا بإثباتها مع التفويض ونفي التشبيه، ثم يذكرون القول الثاني بالتأويل تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، والقولان - عندهم - صحيحان ولا تعارض بينهما، والعجيب أن يتلقى الأشاعرة بعضهم عن بعض مثل هذا، لا يتوقفون عنده، ولا يثيرهم ما فيه من تناقض.
والحق أن التطور في المذهب الأشعري لم يكن في مسألة من المسائل بحيث لا يؤبه له، ولا يلفت النظر، بل كان تطورا في الأصول والمناهج، ويتعدى ذلك إلى مسائل عديدة في العقيدة، وقد كان أبرز مظاهر التطور في المذهب الأشعري ما يلي:
أ - القرب من أهل الكلام والاعتزال.
ب - الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به.
جـ- الدخول في الفلسفة، وجعلها جزءا من المذهب.
هذه أهم الخطوط العامة لما وقع من التطور فيه، وقد تكون هناك تطورات جزئية، لكنها تدخل ضمن أحد هذه الأمور، وهناك بعض الظواهر في المذهب الأشعري قد تلفت نظر المطلع، وذلك مثل ظاهرة ارتباط المذهب الشافعي الفقهي بالمذهب الأشعري، ومثله المالكي، ولكن هذه لا تعدو أن تكون دعوى يدعيها بعض المتحمسين للمذهب الأشعري، وأقرب الأمثلة على ذلك السبكي في (طبقات الشافعية)، فقد حاول أن يجعل من كتابه هذا ما يمكن أن يسمى بـ (طبقات الأشعرية)، ويلاحظ ذلك من يطلع على التراجم في هذا الكتاب وأسلوبه في عرض كل ترجمة، ولا شك أن المدارس النظامية وبعض أعلام الشافعية كان لهم أثر فيما يلمس من تبني جمهرة كبيرة من فقهاء الشافعية للمذهب الأشعري، ولكن ليس بهذه الصورة التي يدعيها هؤلاء، كما أنه ليس كل الحنابلة مثبتة على وفق مذهب السلف، بل فيهم أعداد مالت إلى مذهب الأشاعرة أو إلى ما هو أشد غلوا منه.
١ - إن الانحراف يبدأ في الغالب صغيرا، ثم يكبر، والمتتبع لأغلب المقالات، يجدها تبدأ صغيرة ثم يزداد انحرافها وغلوها مع الزمن، والمذهب الأشعري لما أن حوى منذ البداية انحرافا معينا سواء كان بالدخول في علم الكلام، أو تبني بعض آراء المعتزلة - وهذا كله مما يخالف مذهب السلف ومنهجهم - أصبح قابلا للزيادة في هذا الانحراف من خلال التمادي في علم الكلام والتزام لوازم الأقوال الفاسدة، والاستسلام لبعض شبهات أهل الضلال، وعدم القدرة على رد باطلهم إلا بالتزام بعض الأقوال الفاسدة.