للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تمهيد]

بعد أن قررت المعتزلة عقائدها عن طريق مناهجها العقلية، كان لابد لهم من استحداث طرق لرد تلك الآيات والأحاديث الصريحة الصحيحة التي تخالف ما وصلوا إليه ببدعهم حرصا على مقرراتهم العقلية.

أما الأحاديث؛ فقد رأينا كيف تعاملوا معها - في الصفحات السابقة – وردوا صحيحها بدعاوى متهافتة فزاغوا في العقيدة والشريعة معا، وكان تمويههم بأنها أخبار آحاد طريقا سهلا للتخلص منها.

وأما الآيات القرآنية فقد تعذرت تلك الدعوى عليهم بشأنها إذ هي قطعية الثبوت والمخالف لذلك كافر لا محالة، فلجؤوا إلى طرق أخبث، وهو التأويل الذي فتحوا بابه – واتبعهم فيه من بعد ذلك طوائف من المتكلمين – فحرفوا الكلم عن مواضعه بغيا وعدوانا. قالت المعتزلة: إن الله سبحانه لم يستو على عرشه كما أخبر، بل استولى عليه، فأولوا الاستواء بالاستيلاء، وأن معنى اليد المنسوبة لله سبحانه هي النعمة، والعين تأولوها بمعنى العلم (١)، وفي قوله تعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: ٥٦] فأولوا الجنب بمعنى الأمر؛ فقالوا: أمر الله.

كذلك فعلوا في صفات المحبة والرضى والغضب والسخط فأولوها جميعا، قالوا: محبة الله ورضاه هي إرادته للثواب، وسخطه وغضبه هو إرادته للعقاب.

وسنحاول بيان منهج أهل السنة في هذا الأمر في السطور التالية.

أولا: معنى التأويل:

أوضح الإمام ابن تيمية معاني كلمة التأويل، وأنها تستعمل في ثلاث معاني: الأول: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كالطبري حيث يقول: تأويل آية كذا، بمعنى تفسيرها (٢).

الثاني: التأويل يأتي بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما في قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٥٣] فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك كما في قوله تعالى في سورة يوسف: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: ١٠٠]. فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا. ومن ذلك قول عائشة: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. يتأول القرآن)) (٣). يعني قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا " [النصر: ٣].وكقول سفيان بن عيينة: السنة هي تأويل الأمر والنهي أي عمله والقيام به في الحقيقة (٤). وقال ابن فارس في (فقه اللغة العربية): التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال مآل هذا الأمر: مصيره (٥). والثالث: وهو قد ورد عند المتأخرين من المتكلمين والأصوليين وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله لوجود دليل يقترن به يمنع من إجراء ظاهر اللفظ. وهذا النوع هو الذي استخدمته المعتزلة – بمعناه - في صرف آيات الصفات واستعمله أكثر المتأخرين في تأويل نفس الآيات (٦).

وهذا المعنى للتأويل – وإن لم يرد اصطلاحا في كتابات المعتزلة – إلا أنهم قد جروا عليه في تأويل آيات الصفات وصرفها عن ظاهرها زاعمين أن قرينة التنزيه هي التي توجب عدم أخذ تلك الآيات على ظاهرها وإلا وقعنا في التشبيه!.


(١) ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (١٩٥، ٢١٧).
(٢) ((فتاوى ابن تيمية)) (٣/ ٥٥).
(٣) رواه البخاري (٤٩٦٨) , ومسلم (٤٨٤).
(٤) ((الفتاوى)) (٣/ ٢٠٥٦).
(٥) ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (٣٠١٧٦).
(٦) ((الفتاوى)) (٣/ ٢٠٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>