للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد رأينا أن هذا المعنى للتأويل لم يستخدمه السلف بل قد استعملت كلمة التأويل في المعنيين الأولين فقط – أي التفسير والمآل أو المصير – فتطبيق هذا المصطلح بهذا المعنى على آيات الصفات بدعة ليس لها أصل في أقوال السلف. والتأويل – بالمصطلح الأخير – قد يستعمل في آيات الأحكام الشرعية ويكون بمعنى تخصيص العام في مثل قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤]. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: ٢٣٤] فظاهر كل آية يتعارض مع ظاهر الأخرى، إذ الأولى تجعل عدة الحامل وضع المولود، والثانية ظاهرها أن العدة للمرأة عامة أربعة أشهر وعشر. فيتصرف ظاهرها إلى المرأة غير الحامل حسب الآية الأولى ويسمى تخصيصا. وهو من أبواب التأويل الظاهرة في الفقه. وكذلك تقييد المطلق كما في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ [المائدة: ٣]، وقوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: ١٤٥] فالدم الذي أطلق في الآية الأولى قد قيد في الثانية بأن يكون مسفوحا وهو صرف لظاهر اللفظ المطلق إلى المقيد. (١). وهذا التأويل – الذي هو صرف الظاهر - في الأحكام الفقهية هو من التأويل الصحيح المطلوب لكي نتوصل إلى الحكم الشرعي السليم، وإنما يجب أن تكون شروطه مستوفاة حتى لا يكون تأويلا فاسدا وينتج عنه حكم خاطئ ومثال ذلك ما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) (رواه الخمسة إلا النسائي) (٢) فقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أن المقصود هو المرأة الصغيرة أو المرأة المكاتبة، وهذا تأويل لا يمكن القول به لصرف هذا العموم القوي المقارب للقطع عن ظاهره (٣).

ونرى مما سبق أن التأويل – بهذا المعنى الأخير – هو قسيم للظاهر، والقاعدة العامة في الشريعة هي العمل بالظاهر وتقديمه، بل إنها كلية الشريعة وعمدة التكليف - على حسب تعبير الشاطبي – ولا يصح صرف الظاهر إلا بقرينة قاطعة مع عدم أي إمكانية لفهم الدليل حسب ظاهره بأي وجه من الأوجه. ويشترط لذلك أن يكون المعنى الجديد محتملا، وأن يكون اللفظ المؤول قابلا لاحتمال هذا المعنى فمثلا من التأويلات الفاسدة قول بيان بن سمعان (٤) أنه هو المقصود في قوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران: ١٣٨] وكذلك من قال في قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: ١٢٥] أي فقيرا لعدم صحة المعنى بهذا الشكل.


(١) ((أصول الفقه)) أبو زهرة (١٣٧).
(٢) رواه أبو داود (٢٠٨٣) والترمذي (١١٠٢) وابن ماجه (١٨٧٩) وأحمد (٦/ ٦٦) سكت عنه أبو داود, وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. وقال الترمذي: حسن. وصححه الألباني.
(٣) ((الإحكام للآمدي)) (٣/ ٨١).
(٤) ((الفرق بين الفرق)) (٢٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>