للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الخامس: الدليل المعتمد في إثبات استحقاق الله تعالى للعبودية دون ما سواه]

يرى الأشاعرة أن الدليل المعتمد في هذه المسألة هو الدليل النقلي فقط، بمعنى أن العقل لا يعلم به حسن توحيد العبادة، ومن أقوالهم في ذلك: قال التفتازاني بعد حكاية مقالات المشركين ومذاهبهم: "وبالجملة فنفي الشركة في الألوهية ثابت: عقلاً وشرعاً، وفي استحقاق العبادة: شرعاً وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ." اهـ (١).

ويعني بنفي الشركة في الألوهية عدم وجود رب آخر، أي أن صانع العالم واحد، كما هو معروف في مباحثهم – وهو الظاهر من صنيعه إذ أورد قوله هذا بعد مبحث إثبات أن صانع العالم واحد. أما توحيد العبادة فلا يثبت إلا بالنص كما قال: "وبالجملة فنفي الشركة .... ثابت ... في استحقاق العبادة: شرعاً". ومقصوده نفي تحسين العقل له.

ويرجع السبب في اختيار الأشاعرة لهذه الطريقة في إثبات استحقاق الله للعبادة ونفي الشرك عنه فيها لأمرين:

الأول: أن العقل ليس له مدخل في التحسين والتقبيح.

الثاني: وهو أن العذاب على مخالفة التوحيد في العبادة لا يثبت إلا بعد إقامة الحجة الرسالية.

والجواب:

١ - إن للعقل مدخلاً في معرفة حسن التوحيد وقبح الشرك – وذلك للأدلة التي تقدمت في تقرير الله تعالى للمشركين بإثباتهم الربوبية ليثبتوا له الألوهية، فلو لم يكن ذلك يعلم بالعقل لما قررهم، ولاكتفى بأمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك.

٢ - وأما مسألة ترتب العقاب والعذاب على ترك التوحيد فهذا حقاً لا يثبت إلا بعد قيام الحجة الرسالية لعموم قوله الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: ١٥] – وقد تقدم الكلام على هذه المسألة بما أغنى عن الإطالة فيها في هذا الموضوع.

وقد يفهم من صنيع التفتازاني بإيراده الآية: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:٣١]. أن الدليل منحصر في الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك دون أن يكون للعقل مدخل في معرفة حسن التوحيد وقبح الشرك.

وجوابه:

إن الآية لا تدل على ذلك بأي نوع من أنواع الدلالات، كيف وقد قام الدليل على خلافه، فمن ذلك قول الله تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: ٢٨].

فالمثل المضروب قياس عقلي – وهو قياس الأولى – ثم ختمه بقوله لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فهذا يؤكد أن للعقل مدخلاً في معرفة حسن التوحيد وقبح الشرك. ويبدو أن موقف الرازي أفضل من هذا بكثير إذ هو يرى أن العقل يشهد بأن العبادة وهي غاية التعظيم لا تليق إلا بمن له غاية الإنعام والإحسان، وهذا هو تحسين العقل فقال: "ولما كان الباري سبحانه وتعالى هو المعبود في الحقيقة لا جرم سمي إلهاً، وكيف لا يقول: إنه مستحق للعبادة، وقد بين أنه تعالى هو المنعم على جميع خلقه بوجوده الإنعامات، والعبادة غاية التعظيم، والعقل يشهد بأن غاية التعظيم لا يليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام والإحسان، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: ٢٨] .... (إلى أن قال): "إنه تعالى إنما استحق أن يكون معبوداً للخلق لأنه خالقهم ومالكهم، وللمالك أن يأمر وينهى، وأيضاً أصناف نعمه على العبد خارجة عن الحد والإحصاء كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل: ١٨]، وشكر النعمة واجب" (٢).وهذا الكلام أحسن من كلام التفتازاني إذ هو أقرب إلى ما تدل عليه الأدلة والله أعلم (٣).

المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – ١/ ١٩٧


(١) ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (٤/ ٤٢).
(٢) ((شرح أسماء الله الحسنى)) للرازي (ص: ١٢٥).
(٣) وقد يذكر الرازي في بعض كتبه غير هذا، فانظر – مثلاً – ((المحصول في أصول الفقه)) له (١/ ١٤٧ - ١٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>