للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: نماذج من تأويلات المعتزلة لنصوص الصفات والقدر]

على ركائز الأصول الخمسة وضع المعتزلة منهجهم في التأويل، والذي تقدم بيانه، وترتب على ذلك أن أولوا من نصوص القرآن والسنة الشيء الكثير، وفيما يلي نضرب أمثلة على ذلك، ونعقب على كل مثال ببيان تهافت تأويلهم له والله المستعان:- قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: ١٦٤] زعموا أن المتكلم هو فاعل الكلام، (١) ومرة قالوا: معناه من الكلم، أي: "وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن" (٢).

وهذا التأويل البارد من أفسد ما يكون لما يأتي:١ - أن هذا الفعل المؤكد بالمصدر غير قابل للتأويل كما تقدم، ولا محتمل للمجاز عند القائلين به (٣).

٢ - أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالكلام، كما خص إبراهيم بالخلة، فلو كان كلامه مجرد أصوات وحروف أوجدها وخلقها في الشجرة فلا يكون هناك خصوصية لموسى؛ لأن هذه الأصوات والحروف يسمعها الجميع حتى المشرك الذي قال الله فيه: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة: ٦] ولو كان المراد الابتلاء والامتحان لم تكن هناك خصوصية أيضاً كما لا يخفى، ثم لو أراد الله سبحانه وتعالى أن يخبرنا بأنه فتن موسى وابتلاه بالمحن هل يستقيم أن يعبر عن ذلك بقوله وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى؟ إنه لو فعل ذلك لم يكن في هذا الكلام بيان، ومعلوم أن القرآن ميسر لحفظ آياته، وفهم معانيه، وامتثال أوامره. قال ابن قتيبة عن هذا التأويل الفاسد: "فخرجوا بهذا التأويل من اللغة ومن المعقول؛ لأن معنى تكلم الله أتى بالكلام من عنده، وترحم الله أتى بالرحمة من عنده، كما يقال: تخشع فلان أتى بالخشوع من نفسه" (٤).

هذا في مسألة الكلام، أما مسألة رؤية الباري على ما يليق بجلاله فقد أولوا جميع النصوص الدالة عليها.- من ذلك قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] قالوا: المراد بـ نَاظِرَةٌ الانتظار، "ويراد به التفكر بالقلب طلباً للمعرفة" (٥).

وهذا باطل؛ فإن "نظر" في لغة العرب إما أن يتعدى بنفسه، وإما يتعدى بحرف، فإن تعدى بنفسه كان بمعنى الانتظار، كقوله تعالى: انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ [الحديد: ١٣] أي انتظرونا، وقال حطيئة:

وقد نظرتكم إيناء صادرة ... للخمس طال بها حوزي وتنساسي (٦)

وإن تعدى بالحرف إما أن يكون الحرف هو اللام، وإما أن يكون هو إلى، فإذا تعدى باللام كان المعنى الانتظار أيضاً، فنقول: أنا لك ناظر، أي منتظر. وأما إذا تعدى بإلى – كما في هذه الآية – فيكون بمعنى نظر العين لا غير، فيقال: أنا إليك ناظر، أي بالعين الباصرة، ولا يقال ذلك ويراد منتظر، (٧) قال في (اللسان): "وإذا قلت: نظرت إليه لم يكن إلا بالعين" (٨).


(١) انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص ٥٣٥).
(٢) الزمخشري: ((الكشاف)) (١/ ٣١٤) / الرياض/ مكتبة المعارف.
(٣) انظر ((تأويل مشكل القرآن)) (ص ١١١).
(٤) ((الاختلاف في اللفظ)) (ص ٢٥ - ٢٦).
(٥) القاضي عبد الجبار: ((متشابه القرآن)) (٢/ ٦٧٤) / القاهرة/ دار التراث/ ت: عدنان زرزور، وانظر ((الكشاف)) (٤/ ١٦٥).
(٦) ((ديوان الحطيئة)) (ص) ٥٣/ القاهرة/ مطبعة التقدم/ ١٣٢٥هـ والإيناء: الانتظار، والصادرة: الإبل الراجعة على الماء، والحوز: السوق قليلاً قليلاً، والتنساس: السوق الشديد، والمعنى: انتظرناكم كما تنتظر الإبل الصادرة الإبل الخوامس لتشرب معها. انظر ((لسان العرب)) مادة (ن ط ر).
(٧) انظر ((الاختلاف في اللفظ)) (ص ٢٢ - ٣٣) و ((تأويل مشكل القرآن)) (ص ٣٧٦).
(٨) (٥/ ٢١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>