[المبحث الرابع: مقارنة بين أهل السنة والصوفية في غاية التزكية]
فكما تتباين وسائل التزكية وطرقها بين أهل السنة والصوفية، فإن غاية التزكية تختلف كذلك اختلافا كليا بينهما كما يقال:
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
وسوف نبين ذلك بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.
غاية التزكية عند أهل السنة
غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل، واستسلام ظاهر العبد وباطنه لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل
وأن يلقى العبد ربه بقلب سليم فيسعد بمجاورة الله عز وجل في الفردوس الذي سقفه عرش الرحمن.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل الأوجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، أو كلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل.
إلى أن قال: فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:٣٣]، إذ المحب أن يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبة إلا بين خوف ورجاء قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:٥٧].
وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص لله.
ومما يدل على أن العبودية هي غاية التزكية أن الله عز وجل وصف صفوة الخلق من الملائكة والرسل بالعبودية، ومدحهم بذلك، وذم وتوعد من يستكبر عن عبوديته عز وجل.
قال تعالى في وصف الملائكة وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء: ١٩]
وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: ٢٦ - ٢٧]
وقال عن المسيح عليه السلام: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف: ٥٩]
وقال عز وجل:) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا [النساء: ١٧٢]
ونعت نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء: ١] وقال في الإيحاء: فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم: ١٠]
وقال في الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: ١٩]