وقال في التحدي: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [البقرة: ٢٣]
فإذا كانت الرسل والملائكة الذين هم أشرف الخلق أكمل الناس عبودية، فإن العبد بتزكية نفسه غايته بذلك أن يحقق كمال العبودية ويستكمل مستلزماتها.
والعبادة هي كمال الحب مع تمام الذل فكل ما زكت نفس العبد ازداد حبا وذلا لله عز وجل وإذا كان الله عز وجل خلق الخلق من أجل أن يعبدوه عز وجل كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]
فلا شك أن العبد كلما أدى هذه الوظيفة التي خلق من أجلها كان أزكى نفسا، وأسلم قلبا، وبهذا وغيره يتضح أن غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق العبودية التي يستغني العبد بالله عز وجل ويسعد به ويصل إلى محبة الله عز وجل ورضاه.
قال ابن القيم رحمه الله: ومنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه، ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره والتقرب إليه، فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه إليه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره، في معاشه ودينه، وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يتولى الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وصنعه به من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه ويقع شكرا له.
إلى أن قال رحمه الله: وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة وبالموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبدا أحبوه، وإذا والى واليا والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فينادى جبريل في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم، ويجعل إليه قلوب أوليائه تفد إليه بالرد والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.