للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة]

بنى المبتدعة مذهبهم في صفات الله تعالى على مقدمات وأقيسة عقلية جعلوها أصولا لدينهم.

وعند تأمل هذه الأصول: نجد أنها خالية عن البرهان، معطلة عن الدليل، قائمة على آراء وأهواء وفهوم أصحابها المستمدة من عقولهم القاصرة، دون اعتماد على كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أقوال الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين. .

وقد ادعى هؤلاء أن هذه الأصول عارضت مدلول السمع؛ فأوجبوا تقديمها عليه. .

ومن تلك الأصول: ما أطلق عليه اسم (دليل الأعراض وحدوث الأجسام): فإن أصحاب هذا الدليل أرادوا أن يثبتوا وجود الله تبارك وتعالى وخلقه للمخلوقات؛ وهو ما يعرف عندهم بـ (إثبات الصانع)، فادعوا أن ذلك لا يحصل إلا بالنظر (١) .. .

والنظر المقصود: هو النظر العقلي في الأعراض، وملازمتها للأجسام دون اعتماد على الوحي. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هؤلاء، وعن طريقتهم في إثبات وجود الله تبارك وتعالى: "جعلوا ذلك نظرا مخصوصا؛ وهو النظر في الأعراض، وأنها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها" (٢).وقد أوجبوا هذا النظر، أو القصد إلى النظر، والاستدلال العقلي على كل أحد، ليتمكن من إثبات الصانع، بل جعلوه أول واجب على المكلف (٣).يقول عبد الرحمن النيسابوري (٤): "أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم، وإثبات العلم بالصانع. والدليل عليه: إجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى: وعلمنا عقلا أنه لا يعلم حدوث العالم، ولا الصانع إلا بالنظر، والتأمل. وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به، فهو واجب" (٥).ثم استدل على حدوث العالم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام (٦).

ولما كان الاستدلال العقلي – الذي أوجبوه -، والنظر المخصوص – الذي ألزموا به – من الأمور التي لا يتأتى لكل أحد معرفتها بديهة، ألزموا كل مسلم بتعلم علم المنطق، حتى يستطيع إقامة البراهين على وجود الله. فمن لم يتسن له تحصيل المنطق يكون عاجزا عن إثبات وجود ربه، وتصحيح عقيدته. . لذلك قالوا: إن علم المنطق هو معيار العلم، وقانون الإسلام (٧).

فلابد – عندهم – من سلوك هذا الطريق المعتاص في إثبات الصانع ومعرفته – جل وعلا -؛ وهو ما يعرف عندهم بـ (دليل حدوث العالم بحدوث الأجسام)، و (دليل الأعراض)، و (دليل حدوث الأجسام)، و (دليل حدوث الجواهر والأعراض)، وكلها أسماء لدليل واحد وطريقة واحدة.


(١) ((المواقف للإيجي)) (٣٩).
(٢) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (١٦/ ٣٢٩).
(٣) ((التوحيد للماتريدي)) (١٣٥)، ((الغنية في أصول الدين للنيسابوري)) (٥٥)، ((المغني في أصول العدل والتوحيد لعبد الجبار)) (٤/ ٤١)، ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٠)، ((المختصر في أصول الدين)) (١٧٠)، ((الشامل في أصول الدين للجويني)) (٩٧)، ((الإرشاد)) (٣)، ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (١/ ٤٤)، ((المواقف في علم الكلام للإيجي)) (٢٨)، ((إشارات المرام في علم الكلام للبياضي)) (٨٤)، ((جوهرة التوحيد للقاني – ضمن مجموع مهمات المتون)) (١١)، ((شرح الجوهرة للبيجوري)) (٣٨)، ((شرح الجوهرة للصاوي)) (٦١).
(٤) ((وفيات الأعيان لابن خلكان)) (٣/ ١٣٣)، ((طبقات الشافعية للسبكي)) (٣/ ٢٢٣)، ((الوافي بالوفيات للصفدي)) (١٦/ ٦١)، ((العبر للذهبي)) (٣/ ٢٩٠)، ((سير أعلام النبلاء)) (١٨/ ٥٨٥).
(٥) ((الغنية في أصول الدين للنيسابوري)) (٥٥).
(٦) ((الغنية في أصول الدين للنيسابوري)) (٥٦).
(٧) ((معيار العلم في فن المنطق للغزالي)) (٢٦)، ((الصحائف الإلهية للسمرقندي)) (٦٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>