[المبحث التاسع: الخلوة المرحلة النهائية للوصول]
وهذه المرحلة من السلوك عندهم تأتي رتبة عالية، حيث هي المرحلة الأخيرة لحصول الفتح والكشف عن الحقيقة التي هي ثمرة الرحلة الصوفية، ولا يستطيع تخطي هذه المرحلة بزعمهم إلا من أضيئت بصيرته وأزيحت عنه الأستار، وتوارت عنه الحُجُب، فيرى ما يرى مما يغيب عن الورى.
وخلاصة ذلك: أن يجلس المريد في عزلة عن الناس وحده أو مع بعض المريدين.
وكان من حظي أن دخلت هذه الخلوة مع بعض المريدين، وهي عبارة عن كهف "مغارة" صائماً للنهار قائماً لليل بذكر لفظ الجلالة - الله.
وخلال هذه الفترة التي كانت تقارب - أسبوعاً - لم أجد شيئاً مما يصفونه أو يتخيلونه، مما يخيله الشيطان أو تصوره الأوهام، فلم ينكشف لي الحجاب ولم أرَ شيئاً، لا نوراً يخطف الأبصار ولا أمراً تنكشف به الأسرار، بل خرجت من هذه الخلوة - بتوفيق الله - مجهد الجسم لقلة الطعام وموالاة الصيام، والسهر المضني، قلق البال، حائر الفؤاد، صفر اليدين، من الفتوحات الّلاتي يدَّعونها.
أما في اصطلاح الشيخ فلم يحن الوقت للفتوح بعد، ويتم إعلان النتيجة فيما بعد (مَحْجُوب)!!
وأما بعض من كان معي فخرج ليخبر الشيخ بما رأى وما حصل له من المشاهدات والكرامات والأنوار والأسرار، مما يجعل الشيخ يعطيه وصف الأبرار - فيصبح عارفاً بالله - واصلاً، فُتِحَ عليه، ويَعزي الشيخ هذه النتيجة إلى أن فلاناً يصلح للولاية، وفلاناً لا يصلح، مع أنَّ الكل يأخذ بنفس الأسباب ولا يصلون إلى النتيجة الواحدة، مما يشكك المريدين المحجوبين بالعدل الإلهي - حاشا لله وكلا -: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: ٧٦]. مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء: ٧٩]، فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: ٥ - ١٠].
وهكذا تسبب هذا الشيخ للمريد المحجوب بالشرود والحيرة والقلق والاضطراب والتشكيك، مما يؤدي ببعض المريدين إلى الحقد والكراهية أو إلى مستشفيات الأمراض النفسية أو حتى إلى الجنون، ولقد وجدت بعض هؤلاء المريدين يشكو حاله، وانشغال باله مما أحدثوا فيه من تناقضات واختلافات وهكذا الباطل يحدث في أهله.
قال الله تعالى عن القرآن: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: ٨٢]. فالنتيجة الحتمية لمن لم يسلك طريق الأنبياء هي الزَّيغ والانحراف: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥]، ففتحت عليهم أبواب الضلالة وحرموا من الهداية.
والله سبحانه قال عن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم-: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: ٥٤]، وقال سبحانه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: ٥٦]. وقال سبحانه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: ٣١].
ولذلك حصل لي ما حصل مما يصعب وصفه بسبب سلوكي معهم وذلك بسبب جهلي لطريق الحق لقلة أهله وندرة السالكين فيه. وهكذا لم يفتح الله عليّ حسب اصطلاحهم، فالحمد لله على توفيقه لي حيث جنَّبني الغواية ووفقني للهداية.
المصدر:ذكرياتي مع الطريقة القادرية لنزيه بن علي آل عرميطي