هذا الموضوع يتناول قضية من أهم القضايا المتصلة بالفلسفة الطبيعية والعقدية على السواء لدى مدرسة ذاع صيتها ألا وهي مدرسة الأشعري -رحمه الله- وهذه القضية أسماها الأشاعرة (بالعادة) وهي تعني أنه لا شيء يؤثر في شيء ولا علة تؤثر في معلولها فالنار مثلاً ليس لها أثر في الإحراق، وما يراه الناس من إحراق إنما هو عادة وإلف فقط وليس ناشئًا عن علة في النار والله الخالق له بإطراد كلما التقت النار مع ما تحرقه دون أن يكون للنار أثر يُذكر وهكذا لا حقيقة لطبائع الأشياء وحكموا على أنها فارغة من القوى ومن ثم التأثير في غيرها أو التأثير بقدرة الله-سبحانه- باعتبارها وسائط وهذا معناه أيضًا إنكار لعلاقة الأسباب بمسبباتها وأن التلاقي بينهما ما هو إلا عادة فليس هناك أي علاقة ترابطية إلا ما يشاهده الإنسان بعينه والمشاهدة ليست حجة. بمعنى: أن اطراد الموجودات وتسلسلها ليس قائمًا على الترابط (العليِّ) بل إن العادة وجريانها هما السبيل في إحساسنا بالتعاقب بين ما يقال أنه سبب وما يقال أنه مسبب، وإن وجود أحدهما في الذهن يلزمه -بالتداعي - وجود الآخر دون أن يكون هناك في الواقع رابطة (عليه) حقيقة والذي دفع الأشاعرة إلى هذا القول، مجادلتهم للطبائعيين الذين ينسبون للطبيعة كل التأثير والاستقلال بالفعل فردوا عليهم هذا الاعتقاد بأن نزعوا من الطبائع صفة الفاعلية وغلوا حتى صادروا ما للطبائع من صفات جوهرية بها تتمايز وتتغاير كالفرق بين الخد والبصر، مع أن القول بأنها لا تفعل استقلالاً وإنما بإذن الله وهو القول الذي كان يجب أن يتوقفوا عنده دون الذهاب إلى آخر الشوط وإنكار حقائق الأشياء الأساسية مما أفسد عليهم طرقهم في إثبات التوحيد.
أهمية الموضوع
تكمن أهميته في بيان خطأ هذا الاجتهاد الحاصل بسبب ردود الفعل، وكان الأولى أن يبطل الأشاعرة حجج الطبائعيين القائلين باستقلال الطبيعة في إيجاد الأشياء دون الانسياق وراءهم وإبطال العلل والأسباب والقوى التي أودعها الله في هذه الطبائع ولا تعمل إلا بإذن الله، بمعنى عدم مجاوزة آيات القرآن الحكيم إلى آفاق بعيدة قد يثبت العلم التجريبي والمشاهدة بطلانها، وهذا ما حصل. والمهم هنا ألا نلوي أعناق آيات القرآن، وأن نركب الذلول والصعب في ذلك، لنوافق مذهبًا بعينه، أو فكرة ما تركزت في ذهن صاحبها، ويريد أن يوجد لها أساسًا شرعيًا في كتاب الله عز وجل وقد رأينا هذا المنهج لدى بعض الذين أغراهم الفكر الوارد في بعض مظاهره، فحاولوا عقد صلة بينه وبين النصوص الدينية فجاء عملهم هذا بعيدًا عن روح النص المقدس كما رأينا له مظهرًا آخر لدى أصحاب العقائد الباطنية المنحرفة.
وتكمن الأهمية في خطأ المسارعة بالحكم على كل من خالف في جانب من جوانب الفكر القابل للاجتهاد بالكفر والضلال وما شاكل ذلك، بل لا بد من المناقشة الموضوعية، والحوار الهادف، للوصول إلى غاية الهدف.
ومن الأهمية بيان أنه (من أنكر وجود المسببات مرتبة على الأسباب في الأمور الصناعية أو لم يدركها فهمه، فليس عنده علم بالصناعة ولا بالصانع كذلك في جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب في هذا العالم، فقد جحد الصانع الحكيم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا وأبطل الحكمة وأبطل العلم، وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها، والحكمة هي معرفة بالأسباب الغائبة) ولهذا عبر الدكتور أبو العلا عفيفي عن قانون السببية بأنه عقيدة وعبر غيره ممن خالف قانون السببية وقال بالعادة بعقيدة العادة في مواجهة عقيدة (قانون السببية).