للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ - أن تكليف ما لا يطاق جائز، وهذا مذهب الأشاعرة، وبنوا ذلك على ما في مذهبهم من أنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء. لكن الأشاعرة يقولون، إن ما لا يطاق أقسام: أ- أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه، كتكليف الكافر الإيمان في حالة كفره، وهذا جائز عند جميع الأشاعرة، وهذا النوع هو ما لا يستطيعه المكلف لاشتغاله بضده فقط وهو الذي منعه المعتزلة (١).ب- أن يمتنع الفعل لنفسه، بكونه محالا كالجمع بين الضدين، وهذا اختلف فيه الأشاعرة، منهم من أجازه كالرازي ومنهم من منعه (٢).ج- ألا تتعلق به القدرة الحادثة عادة، كحمل الجبل، والطيران، فهذا يجوزه بعض الأشاعرة وإن لم يقع من خلال الاستقراء، وبعض المجوزين يحتج لذلك بتكليف أبي لهب الإيمان مع ورود الخبر أنه لا يؤمن (٣).

٤ - مذهب السلف، التفصيل، وذلك أن يقال: تكليف مالا يطاق على وجهين:

أحدهما: ما لا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:

أ- ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.

ب- وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديما، والقديم محدثا، ونحو ذلك. فهذان النوعان قد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع، وأنه لا يجوز تكليفه (٤).والثاني: ما لا يقدر عليه لا لاستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا مما منعه جمهور أهل العلم، وإن كان بعض المنتسبين إلى السنة قد أطلقه في ردهم على القدرية (٥).بقي الكلام في ما احتج به بعض الأشاعرة من جواز تكليف الممتنع عادة، بقصة أبي لهب (٦)، فشيخ الإسلام يرى أن هذا خطأ، لأن من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلى النار، بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان، فهذا قد حقت عليه كلمة العذاب، فهو كالذي يعاين الملائكة وقت الموت، فلم يبق هذا مخاطبا من جهة الرسول بالأمرين المتناقضين. وهو أيضا كقوم نوح حين أخبر الله نوحا – عليه السلام – أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فلم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب (٧)."بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب، ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه إيمانه حينئذ، كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب، قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: ٨٥] (٨).فأبو لهب قد حقت عليه كلمة العذاب، فلا ينفعه الإيمان (٩).وهكذا فالقول الراجح هو التفصيل فيها. ومن ذلك يتبين خطأ المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة. علما أن من الأشاعرة من ذكر القول الحق بتفصيله في هذه المسألة (١٠).

هذه أهم المسائل المتعلقة بالقدر، وهي إن كانت مسائل فرعية إلا أنها ذات صلة قوية بموضوع القدر، أو هي جزء منه، ولاشك أن الأشاعرة لم يسلكوا فيها المسلك الصحيح الذي هو مسلك السلف – رحمهم الله – ولذلك جاء مذهبهم في القدر وفي أفعال العباد، منحرفا عن المذهب الحق.

المصدر:موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – ٣/ ١٣٢٣


(١) انظر: ((شرح المواقف)) (ص: ٣٣١ - ٣٣٢) – الجزء الثاني.
(٢) انظر: ((الإرشاد)) (ص: ٢٢٦) وما بعدها، و ((معالم أصول الدين)) للرازي (ص: ٨٥ - ٨٦)، ط مكتبة الكليات الأزهرية، و ((شرح المواقف)) (ص: ٣٣٢) – الجزء المحقق.
(٣) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٢٩٥)، و ((شرح المواقف)) (ص: ٣٣٣) – الجزء المحقق.
(٤) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٣٠١).
(٥) انظر: ((المعتمد في أصول الدين)) للقاضي أبي يعلى (ص: ٤٦ - ١٤٧)، و ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٢٩٨ - ٣٠٢)، و ((درء التعارض)) (١/ ٦٠).
(٦) كالرازي في ((معالم أصول الدين)) (ص: ٨٥)، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٣٠٣).
(٧) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٣٠٢)، و ((درء التعارض)) (١/ ٦٣).
(٨) انظر: ((درء التعارض)) (١/ ٦٣ - ٦٤).
(٩) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٤٣٨، ٤٧٣ - ٤٧٤).
(١٠) انظر: ((المعتمد في أصول الدين)) (ص: ١٤٦)، و ((الاقتصاد)) للغزالي ((ص: ١١٢ - ١١٤) ط دار الكتب العلمية، و ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٢٩٦، ٤٦٩ - ٤٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>