الأول: أن الكلام هو ما قام بالمتكلم لا ما قام بغيره، وقيام الصفة إنما يكون بالموصوف بها لا بغيره، والصفة إذا قامت بمحل كانت صفة له لا صفة لغيره – كما فصلت القول فيه في الباب الأول – فما خلقه الله تعالى من الصفات في الأشياء ليس من ذلك شيء صفة له، إنما هي صفات لمخلوقاته، فهو تعالى قد أنطق سائر الأشياء نطقاً معتاداً أو غير معتاد، فأنطق الإنسان والجان وغير ذلك من خلقه نطقاً معتاداً، وأنطق السماوات والأرض وما بينهما نطقاً غير معتاد، كما قال تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: ٤٤] وقال في غير موضع يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن: ١] وانطق الطير لسليمان، وأنطق النملة، وأسمع نبيه صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى، وفي الآخرة تنطق الجنة والنار، وتحدث الأرض بأخبارها، وتشهد الجلود على أهلها حين تبلى السرائر: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: ٢١] فكل هذا الإنطاق من خلق الله في الأشياء، فنطقها صفات لها، ولا يقول أحد: عن نطق الأشياء صفة لله، إلا حلولي مارق يعتقد أن صفة الله تحل في المخلوق، أو اتحادي يرى اتحاد المخلوق في الخالق، فنطق المخلوق وصوته وكلامه هو بعينه صفة الرب تعالى، كما قال قائلهم:
وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
وهذا غاية الكفر والإلحاد، إذ مقتضاه أن ما ينطق به المخلوق من الخير والشر وفحش القول، بل وحتى أصوات البهائم وسائر الحيوانات، كل ذلك صفة للرب تعالى وتقدس وتنزه عن صفات خلقه.
فلو أخلصت المعتزلة النية لله وسألوه التوفيق لاهتدوا إلى فحش ما أقدموا عليه، ولكنهم حرموا ذلك فهم عن الصراط لناكبون، فحسبوا أن الصوت الذي سمعه موسى صوت مخلوق في الشجرة، كنحو صفير ورقها إذا عصفت الريح، وما عقلوا أن معنى هذا أن الشجرة هي القائلة لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] وهي القائلة: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: ٣٠] ولا فرق حينئذ بين دعوى الشجرة ودعوى فرعون، فكل ادعى الربوبية، فصدق موسى الشجرة وكذب فرعون.